وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً
منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون.
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له:
"مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك فقال:
لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً" .
أي: لحسنته لك تحسيناً،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
" زينوا القرآن بأصواتكم".
وقال صلى الله عليه وسلم "لله أشد أذناً" أي: استماعاً
"إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته".
وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود:
"اقرأ علي القرآن فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل ؟
فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء،
حتى انتـهيت إلى هـذه الآية":
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً}
[النساء:41] " قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان من البكاء".
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم،
كما ذكره الله في القرآن فقال:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ
وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}
[ مريم: 58]،
وقال في أهل المعرفة:
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ
مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}
[المائدة:83].
ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان
واقشعرار الجلد ودمع العين
فقال تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
[الزمر:23]،
وقال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
[الأنفال: 2-4].
وأما السماع المحدث، سماع الكف والدف والقصب،
فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر
من أئمة الدين يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى،
ولا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة،
حتى قال الشافعي:
خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به
الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك،
ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم.
ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان
منه أكثر وهو بمنزلة الخمر، يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر؛
ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة
بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم،
كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين
الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين
وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين،
فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم
مما يكرم الله به أولياءه ؟!
وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً
بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه،
و يرفع به درجته.
وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات،
ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات،
ومنها ما هو من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر
من العلم والسلطان والمال والغنى.
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به
على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته
ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله،
وعلت درجته.
وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك
والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب،
فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أوحسنات ماحية
وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيراً ما يعاقب أصحاب الخوارق
تارة بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه،
وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة،
وتارة ينزل إلى درجة الفساق،
وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية،
فإن كثيراً من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف
أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله،
ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبداً
خرت عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطي
عبداً ملكا ومالا وتصرفاً لم يحاسبه عليه،
ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأموراً بها ولا منهياً عنها،
فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون،
وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد الرسول
أعلى من النبي الملك.
ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير
من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى،
كما يتوب من الذنوب:
كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها،
وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها ولا يجعلها همته
ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة
من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات
بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها،
وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول:
هنيئاً لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك،
وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير
وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان
قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك،
ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه
وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن
قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار، أو تحضر عنده
من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه،
فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله.
وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له:
أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله
عليه وسلم ويظهر له الخوارق، مثل أن يخطر بقلبه تصرف
في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير
أو الجراد يميناً أو شمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه
قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد
من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به،
وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له:
هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه:
كيف تصوروا بصورة المردان؟!
فيرفع رأسه فيجدهم بلحي ويقول له:
علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة
فتنبت ويراها وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان.
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير،
وقد قال تعالى:
{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}
[الفجر:15- 16]
قال الله تبارك وتعالى:{كَلَّا}[الفجر:17]،
ولفظ {كَلَّا} فيها زجر وتنبيه: زجر عن مثل هذا القول،
وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس
كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل
مكرماً له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهيناً له بذلك،
بل هو سبحانه يبتلى عبده بالسراء والضراء،
فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده
ليستدرجه بذلك، وقد يحمى منها من يحبه ويواليه
لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منها.
وأيضاً [كرامات الأولياء] لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى
فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق
أعداء الله لا من كرامات أولياء الله،
فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر
وقيام الليل والدعاء،
وإنما تحصل عند الشرك:
مثل دعاء الميت والغائب،
أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات:
كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات،
ومثل الغناء والرقص، لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان،
وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع
مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى
قاعداً أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن
وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده،
ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد.
فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى:
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}
[الزخرف:36].
فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}
[طه:124- 126] يعني تركت العمل بها،
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا،
ولا يشقى في الآخرة؛ ثم قرأ هذه الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.