شبهات حول تحكيم الشريعة
سبق أن بينا في الشهر الماضي أن التحاكم إلى شريعة الله من مقتضيات الإيمان، كما
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾
[النساء: 60].
فبينا أن الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين:
قسم مخرج من الملة، وقسم غير مخرج من الملة
وخلاصة القسم غير المُخرج، أن يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله
وأنه لا يجوز الحكم بغيره، لكنه عدل عنه لهوى وشهوة
مع اعترافه أنه مستحق للعقوبة[1].
أما القسم المخرج من الملة فهو أنواع
يمكن إرجاعها إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى: الاستحلال والجحود: ويدخل فيه عدة أنواع، منها أن أن يجحد أحقية حكم الله ورسوله، أو يعتقد أن حكم غير الله أحسن، أو يعتقد أن حكم غير الله مثل حكم غيره.
الحالة الثانية: التشريع المخالف لشرع الله، ويدخل في ذلك أصحاب القوانين الوضعية.
الحالة الثالثة: من أطاعهم في تشريعهم المخالف لشرع الله، مع علمه بمخالفتهم لها.
وبينا فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء أنه
"لا يجوز للمسلم التحاكم إلى المحاكم الوضعية إلا عند الضرورة إذا لم توجد محاكم شرعية، وإذا قضي له بغير حق له فلا يحل له أخذه" انتهى[2]
أما اليوم فموضوعنا حول بعض ما يثار من شبهات حول هذه الشريعة، وهذا هو عنصرنا الأول أو الــ...
الشبهة الأولى:
للحاكم أن يتصرف في أحكام الشريعة بحسب الأحوال:
يقول الذين يتلمسون المعاذير والحجج ليتهربوا من الالتزام بتطبيق شريعة الله، إن للحاكم أن يتصرف في أحكام الشريعة حسب الأحوال
ويستدلون بقولهم:
• أوقف عمر حد السرقة عام الرمادة.
• أبطل سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة.
فإذا جاز هذا لعمر رضي الله عنه فلماذا لا يجوز للحكام اليوم،
وقد تبدلت الأمور تبدلا حادًا، يستدعي إعادة النظر فيما يمكن
وما لا يمكن، وما يجوز وما لا يجوز؟!
الرد على الشبهة:
بداية القاعدة: "إن كنت مدعيًا فالدليل، أو ناقلاً فالصحة"
وهذا الخبر قد ضعفه جمع من علماء الحديث[3].
وعلى فرض صحتها، فليس فيها شيء مما يدعون،
لأن من المعلوم أن الحدود في الشريعة لا تقام على العبد
بمجرد الوقوع في المخالفة الشرعية المترتب عليها الحد؛
وإنما لابد من توفر شروط كثيرة وانتفاء موانع كثيرة
كذلك منها انتفاء الشبهة والعام كان مجاعة فهي شبهة تدرء الحد.
• أما المؤلفة قلوبهم في قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
• هذه الأوصاف الثمانية ليست أوصافًا ملازمة للشخص
لا تفارقه حتى يموت، بل هي أوصاف مفارقة وطارئة.
فالرجل قد يكون في وقت من الأوقات فقيرًا محتاجًا
فيعطى نصيبه من الزكاة، ثم يرتفع عنه وصف الفقر
فلا يكون من أهل الزكاة، وعدم إعطاءه في هذه الحالة ليس
إبطالاً للنص ولا إلغاءً للحكم؛ وإنما تعليق لارتفاع علته،
فكذلك الحال في المؤلفة قلوبهم.
فقد يكون الرجل في وقت من الأوقات من المؤلفة قلوبهم
فيعطى من الزكاة، ثم يرتفع عنه هذا الوصف فلا يُعطى منها،
وعدم إعطاءه ليس إلغاءً للحكم وإنما من قبيل انتهاء علته.
فعمر رضي الله عنه إذن لم يُلغ الحكم وإنما أوقفه عن أناس محددين
ارتفع عنهم الوصف المؤثر في الحكم فلم يعودوا من أهله.
وهذا ما فهمه عمر بن عبد العزيز -وهو من أشد الناس اتباعًا
لجده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأحرصهم على التأسي به-؛
ولهذا فإنه رجع إلى تطبيق حكم المؤلفة قلوبهم من جديد لما رأى
أن العلة الموجبة لذلك قائمة في بعض الأشخاص[4]
وهو ما يؤكد أن عمر رضي الله عنه لم يلغِ نصيب المؤلفة
قلوبهم ولم يوقفه إلى الأبد.
الشبهة الثانية:
عدم ملائمة الشريعة للأحوال المستجدة في حياة الناس:
هل تصلح الشريعة التي نزلت من أربعة عشر قرنًا
أن تحكم الواقع المعاصر، وقد جد في حياة الناس
ما لم يكن قائمًا وقت نزول الشريعة؟
الجواب:
أولاً: صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان من المعلوم بالضرورة من الدين:
هل أوجب الله الحكم بشريعته، وحذَّر منَ العُدُولِ عنها أوِ التحاكم إلى غيرها؟
لقد تولى الله سبحانه الإجابةَ على ذلك؛ ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].
هل نُسختْ هذه النصوص التي تُلزِم بهذه الشريعة،
وتوجِب الحكمَ بها، وتَنْفِي الإيمان عمَّن خالفها؟
لا شكَّ أن الجواب على ذلك هو النفيُ القاطِعُ؛
فإن النسخ لا يكون إلا في زمن البَّعْثَةِ؛
لأن هذا الحق ليس لأحد من دون الله،
ولا سبيل إليه إلا بالوحي المعصوم،
وقد أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا النعمة،
وأحكم آياته، وتعبَّدَنا بها إلى قيام الساعة،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
« إِنِّى قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا
أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِى وَلَنْ تَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ »[5].
• هل يُعَنِّتُ الله عبادَهُ بتكليفِهم ما لا يُطِيقون؟ أو يُلْزِمُهم بما تضطَرِبُ به أمورهم؛ فيُفْتَنُون؟ أو يتعبَّدُهم بما يحول بينهم وبين التَّمكين في الأرض؛ فيُغْلَبون على أمرهم ويُقهَرون؟ أَيَلِيقُ بالحكيم أن يُلزِم أولياءه بما يَشْقَوْنَ به في دنياهم، ويقعُدُ عنِ الوفاء بمصالحهم، ويَهْوِي بهم إلى أغوارٍ قَصِيَّةٍ منَ التخلُّف والتَّبَعِيَّةِ؟!
ثانيًا: الإشكالية التي يطرحها البعض أنَّ الشريعة جَوْهَرُها الثبات،
والإنسان جَوْهَرُهُ التغيُّر، فضلاً عن محدودية النصوص
وعدم محدودية الحوادث التي يفترض أن تحكمها هذه النصوص؟
الشريعة جوهرُها الثباتُ والإنسان جوهرُه التغيُّر،
يُعَدُّ في الواقع تغافُلاً عن حقيقة الشريعة وحقيقة الإنسان؛
فلا الشريعة ثابتة في كل أحوالها، ولا الإنسان متغيِّر
في كل شؤونه، فالشريعة منها ما هو ثابت محكَم، وهو القطعيات
ومواضِعُ الإجماع، ومنها ما هو متغيِّر نِسْبِيٌّ، وهو الظنيَّات
وموارد الاجتهاد؛ بل إن منها منطقة العفو التي أحالت فيها
إلى التجربة والمصلحة، في إطار من قواعد الشرع الكلية
ومقاصده العامة.
مثال (1):
أجملَت الشريعة القول في كثير من المعاملات التي تتجدد فيها الحاجات، وتكثر فيها المتغيرات، واكتفت فيها بإيراد المبادئ العامة والأُطُر الكليَّة، تاركةً للخبرة البشرية أن تتصرف في حدود هذه الأُطُر بما يحقق المصلحة ويدفع الحاجة، ولهذا جعلت الأصل في العقود والشروط هو الإباحةَ إلا أن يأتي نصٌّ بالتحريم، في الوقت الذي قررتْ فيه أن العباداتِ توقيفيَّةٌ، وجعلتِ الأصل فيها هو المنعَ، حتَّى يأتيَ دليلٌ يدل على المشروعية.
مثال (2):
أمرت الشريعة مَثَلاً بالشُّورَى وأكَّدت عليها، ولكنَّها أحالت في أساليبها إلى الخبرة والتجربة، لأن هذه الأساليب مِمَّا يتجدَّدُ بتجدد الزمان وتطوُّر الحاجات.
وأخيرًا:
أما ما يذكر من تغيُّر الإنسان، فإن ذلك ليس على إطلاقه؛ لأن من شؤون الإنسان ما هو ثابت، ومنها ما هو متغيِّر متجدِّدٌ؛ فالغرائز الفطرية والحاجات الأساسية للإنسان ثابتة مُحْكَمَة، وسيَظَلُّ الإنسان ما بَقِيَ الليلُ والنهار، ومهما تغيَّر الزمان والمكان في حاجة إلى عقيدة يعرف بها سِرَّ وجودِهِ واتصاله بخالقه، وإلى عبادات تُزَكِّي رُوحَه وتُطَهِّرُ قلبه، وإلى أخلاق تُقَوِّم سُلوكه وتُهَذِّبُ نفسَه، وإلى شرائعَ تُقِيمُ مَوَازِينَ القِسط بينه وبين غيره؛ فالَّذي يتغيَّر من الإنسان هو العَرَض لا الجوهر، الصورة لا الحقيقة.
ولقد تعاملتْ نصوص الشريعة مع الإنسان على هذا الأساس؛ ففَصَّلَتْ له القول في الثابت الذي لا يتغير من حياته، وسكتتْ أو أجملتْ فيما من شأنه التغيُّر والتجدُّد، صُنْع الله الذي أَتْقَنَ كلَّ شيءٍ، ألا يَعلم مَن خَلَقَ وهو اللطيف الخبير؟!
والعجيب أن تُتهم الشريعة بالجمود وعدم الصلاحية من قِبَل فريق من جِلْدَتِنا ويتكلمون بأَلْسِنَتِنا، في الوقت الذي نرى فيه من فلاسفة الغرب وأصحاب الرأي فيه مَن يُشيد بهذه الشريعة، ويشهد لها بالخلود والحيوية والتفوق!:
• ففي أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد بباريس، وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية لم يلبث أحد الحضور وكان نقيبًا للمحامين أن أعلن دَهْشَتَهُ وعجَبَهُ قائلاً: "أنا لا أعرف كيف أُوَفِّق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي، وعدم صلاحيته أساسًا تشريعيًّا يَفِي بحاجات المجتمع العصري المتطوِّر، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها، مما يثبت خلاف ذلك تمامًا ببراهين النصوص والمبادئ!"[6].
• ولقد تفرَّدَتْ هذه الشريعةُ بعِلم أصول الفقه الذي دَوَّنَ قواعِدَهُ الشافعيُّ -رحمه الله- وأنضجه الأئمةُ من بعده، وهو عِلم يضبط عملية استنباط الأحكام منَ الأدلة، ويحول بين الأُمَّة وبين الجمود من ناحية، كما يحول بينها وبين التحلُّل وخلع الرِّبْقَة من ناحية أخرى.
ومن القواعد المقرَّرَة في هذا العلم، والتي تمثل عوامل السَّعَةِ والمرونة في هذه الشريعة، وتَكْفُلُ وفاءها بمختلِف الحاجات المتجدِّدَة - ما ذكره أهل العلم من:
• أدِلَّة التشريع فيما لا نصَّ فيه؛ كالاستحسان، والاستصحاب والعُرف ونحوِهِ.
• ورعاية الضَّرورات والأعذار والظروف الاستثنائية، وتَغَيُّر الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف إلى غير ذلك من قواعد الرُّشْد والحَيَوِيَّة في هذه الشريعة الخالدة، على أن يتِمَّ ذلك في إطارٍ مُنْضَبِط منَ الاجتهاد الشرعيِّ المُعْتَبَر، وليس بإطلاق العِنان للأهواء، والاسترسال مع دعوات التغريب تحت شِعار التقدُّم والتجديد والاستِنارة؛ حتَّى لا يُستباح حَرَمُ الشريعة أمام كل دَعِيٍّ جَهول.
الشبهة الثالثة:
عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب وجود الأقليات غير المسلمة:
معنى هذه الشبهة بعبارة صريحة أن الأقلية تملك منع الأغلبية من ممارسة دينها!
الجواب:
متى كان هذا في التاريخ كله؟!
ولنأخذ حال الأقليات المسلمة في بلاد الأرض في واقعنا المعاصر.
إن أقلية واحدة من الأقليات المسلمة في الأرض لم تقم -بداهة-
بمطالبة الأكثرية الحاكمة بالكف عن ممارسة دينها، مجاملة
لوجودها بين ظهرانيها.
ولكن بفرض هذا المستحيل! فكيف يكون رد الفعل لدى الأكثرية
الحاكمة في العالم، لو تقدمت أقلية مسلمة بمثل هذا الطلب العجيب؟!
أليست أقليات المسلمين في كل العالم يفعل بها الأفاعيل
حتى دون هذا الطلب، فماذا لو طلبت؟
ثم ألم تكن الأقليات غير المسلمة تعيش في كنف الدولة
الإسلامية المطبقة لشريعة الله ثلاثة عشر قرنًا كاملة،
لا تشكو، ولا تفكر في الشكوى، بل لا تجد لها مبررًا..
حتى وصل المسلمون إلى حضيض ذلتهم،
فبرزت تلك الدعوى إلى الوجود!
وأخيرًا: لا يزعم أحد أنهم يريدون فقط تعطيل تطبيق الشريعة،
مع بقاء المسلمين مسلمين كما هم يمارسون دينهم كما يشاءون،
لأننا فصلنا هذا في الخطبة الماضية أنه لا إسلام بغير شريعة الله.
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾
[النساء: 65].
فالدين ليس عقيدة فقط، أو عقيدة وشعائر تعبدية فحسب،
بل هو منهج حياة، كما تقدم مرارًا،
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾
[الأنعام: 162، 163].
أبعد ذلك يقول قائل إن من حق الأقليات غير المسلمة أن تمنع
الأكثرية المسلمة من ممارسة دينها كما أمرها الله؟!
هذه الدعوى كمن يقول: اكفروا بدينكم أيها المسلمون،
لكي تمارس الأقليات غير المسلمة دينها على التمام!!
الشبهة الرابعة:
عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب الدول العظمى
وضغطها على العالم الإسلامي:
قد تبدو هذه الشبهة من بين الشبهات جميعًا أكثرها "واقعية"...
فالدول التي نحيت فيها الشريعة الإسلامية نتيجة التدخل العسكري
لأعداء الإسلام، ما تزال عاجزة عن السيطرة الحقيقية على شئونها
وإن كانت قد استقلت ظاهريًا، بمعنى خروج الجيوش الغازية
من أراضيها، فما تزال واقعة تحت السيطرة السياسية
أو الاقتصادية لهذه الدولة أو تلك من القوى العالمية التي
تسمى "الدول العظمى"، تجعل خضوعها لسيطرة تلك القوى
أمرًا واقعًا، شئناه أم أبيناه.
الجواب من وجهين:
الوجه الأول: هو الإجابة على هذا السؤال: لماذا صار العالم
الإسلامي إلى هذا الوضع المهين إزاء القوى العالمية المتسلطة؟
السبب في هذا الوضع المهين هو تهاوننا التدريجي المتزايد
في التمسك بحقيقة هذا الدين، وانحسار مفاهيمه كلها عن حقيقتها
التي نزلت بها من عند الله، واتخاذها صورة غريبة على هذا الدين،
بدءاً من مفهوم "لا إله إلا الله"، إلى مفهوم العبادة، إلى مفهوم
القضاء والقدر، إلى مفهوم الدنيا والآخرة، إلى مفهوم الحضارة
وعمارة الأرض، إلى مفهوم الجهاد، إلى مفهوم التربية،
إلى مفهوم الأخلاق، إلى مفهوم العلم... إلى مفهوم
كل شيء في هذا الدين.
حين انحرف فهم المسلمين لكل مفاهيم الإسلام،
انحرف في حسهم كذلك مفهوم الصبر والتقوى،
فتحولا إلى سلبية ليس فيها غناء.
والوجه الثاني: هو الإجابة على هذا السؤال:
هل حقًا لا نملك أن نصنع شيئًا إزاء ذلك التسلط العالمي
على الأمة الإسلامية؟
إن أحدًا من الجادين لا يقول ذلك، وإن اختلفت درجات الجد
وزوايا الرؤية ومناهج العاملين.
إننا في الحقيقة نملك الكثير... إذا عزمنا العزمة الصادقة،
واتجهنا الاتجاه الصحيح، إي إذا عزمنا عزمة صادقة أن نعود
إلى حقيقة ديننا ونتحمل التكاليف.
إن الأرض التي انتشر فيها الإسلام -بقدر من الله- هي بفضل الله
أغنى بقعة في الأرض، بثرواتها البشرية والمعدنية والمائية،
وكل أنواع الطاقات، ولكن أهلها اليوم هم أفقر سكان الأرض،
وأشدهم جوعًا ومرضًا وتخلفًا... ولو كانت هذه الثروات
والطاقات ملكًا حقيقيًا لأهلها لكانوا أغنى سكان الأرض...
فمن الذي يمنعهم من امتلاكها والتصرف الحر فيها؟
هم ذات الأعداء الذين يمنعونهم من تطبيق شريعتهم!
مثال: (الموارد الطبيعية): بفضل الله تمتلك مساحة من الأرض
تصلح للزراعة تكفينا لتحصيل الاكتفاء الذاتي، فما الذي يمنع من
تنفيذ هذه المشروعات التي فصلها أهل التخصص فيها؟!
وكذا نمتلك المعادن الطبيعية كالبترول والغاز.. إلخ.
.... وهكذا في كل مجالات العلم والإعداد، لنأخذ بالسبب ونعمل
على تحكيم شريعة الله، مع تأمل قوله تعالى:
﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
[البقرة: 249].
فإننا نحتاج قرأتها كأنها موجهة إلينا نحن، لا أنها كانت موجهة
للذين تلقوا القرآن أول مرة ولا علاقة لها بالأجيال الحاضرة!
وهي في حسه رواية عن أحداث مضت، وليست سننًا جارية
تتحقق كلما تحققت أسبابها!
إنها توجيهات ربانية موجهة للأمة كلها في جميع أجيالها،
وسنن جارية تتحقق كلما تحققت أسبابها...
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾
[محمد: 7].
وهذا لن يتحقق في يوم وليلة، فالمشوار طويل، لأن المدى الذي بعدته
هذه الأمة عن طريق الله، والذي ينبغي أن تقطعه من جديد لتعود إليه... مدى كبير، يحتاج إلى زمن غير قصير، وجهد غير قليل.
ولكنه أمر لا بد منه... لا بد من تربية جيل جاد، يحمل بين جنبيه:
شعلة الإيمان، شعلة الجهاد بشموليته.
وحين يولد هذا الجيل، فسيحقق الله النصر على يديه،
تحقيقًا لسننه الجارية، ولوعده الخاص لهذه الأمة:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55].
وحين يولد هذا الجيل، الذي يعيش بروح الجهاد في كل لحظة،
فهو إما أن يجد الطريق مفتوحًا، فيحقق أهدافه بجهاد
العمل الشاق المتواصل، وإما أن يجد الطريق مسدودًا
فيفتحه بجهاد القتال... ولا ينال في كل حالة إلا إحدى الحسنيين:
﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ
أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ [التوبة: 52].
وعندئذ يصبح تطبيق الشريعة أمرًا واقعًا...
وتصبح العقبات هي الأوهام
[1] انظر: مدارج السالكين (1 /336-337)، وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (12 /291).
[2] فتاوى اللجنة الدائمة (23 /502).
[3] انظر: إراواء الغليل (8 /80).
[4] انظر: الطبقات الكبرى (5 /558).
[5] أخرجه البيهقي في الكبرى (20834)، وقال الألباني في منزلة السنة (13): إسناده حسن.
[6] نقلاً عن كتاب: "مشاكلنا في ضوء الإسلام"، د/ عبدالمنعم النمر، صـ37.