شبهات حول منهج المحدثين في الجرح والتعديل
- التصنيف:شبهات حول السنة النبوية
من الأمور المعلومة بداهة أنه لا سبيل إلى معرفة
ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث
وأخبار إلا عن طريق الرواة والنقلة الذين نقلوا أخباره
جيلاً بعد جيل وطبقة بعد طبقة حتى دونت السنة
في الكتب المعتمدة المعروفة ،
ولذلك كان الاطلاع على أحوال هؤلاء الرواة والنقلة ،
وتتبع مسالكهم ، وإدراك مقاصدهم وأغراضهم ،
ومعرفة مراتبهم وطبقاتهم ، وتمييز ثقاتهم من ضعافهم
هو الوسيلة الأهم لمعرفة صحيح الأخبار من سقيمها ،
مما نتج عنه نشوء علم عظيم وضعت له القواعد ،
وأسست له الأسس والضوابط ، فكان مقياساً دقيقاً
ضبطت به أحوال الرواة ، من حيث التوثيق والتضعيف ،
ذلك هو " علم الجرح والتعديل " الذي لا نظير له عند أمة من الأمم ،
حتى عُدَّ هذا العلم نصف علم الحديث .
والذي يطالع كتب الرجال والتراجم والجرح والتعديل ،
يقف مبهوراً أمام هذا العلم الذي لا يمكن أن يكون
وضع صدفة أو تشهياً ، بل بذلت فيه جهود ،
وفنيت فيه أعمار حتى بلغ قمة الحسن ومنتهى الجودة .
ولأهمية هذا العلم وأثره في ضبط السنة وحفظها ،
وسدِّ الأبواب أمام المتلاعبين ، جاء الطعن فيه من قبل
المستشرقين والمستغربين على حد سواء ،
حيث نبتت نابتة في الأزمة المتأخرة زعمت أن جرح الرواة
وتعديلهم لم يكن مضبوطاً بضوابط معروفة ،
بل كان قائماً على الفوضى والمزاجية ،
وبحسب ما تمليه الظروف والأهواء والحظوظ النفسية ،
فليس هناك قواعد علمية دقيقة يحتكم إليها المحدثون ،
ولهذا كان للاختلاف المذهبي والطائفي أثره في تحامل
المحدثين في حكمهم على بعض الرواة ، حيث وثقوا من لا يستحق التوثيق ،
وضعفوا من لا يستحق التضعيف ، وبالتالي صححوا أحاديث
لم تكن لتبلغ هذه الدرجة ، مما يوجب عدم الثقة بمنهجهم
في الجرح والتعديل ، ورد كثير من الروايات التي أثبتوها بناء على ذلك .
قال " جوينبل " :
" والحكم على قيمة المحدث قد يختلف اختلافاً بيناً ،
فربما كان ثقة عند قوم ، ولكن عند غيرهم كانوا يعدونه
في منتهى الضعف ، وربما اعتبروه كاذباً في روايته ".
ويقول " أحمد أمين " في ضحى الإسلام :
" إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف
فبعض يوثق رجلاً ، وآخر يكذبه ، والبواعث النفسية على
ذلك لا حصر لها ، ثم كان المحدثون أنفسهم يختلفون في
قواعد التجريح والتعديل ، فبعضهم يرفض حديث المبتدع مطلقاً
كالخارجي والمعتزلي ، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث
التي لا تتصل ببدعته ، .... - إلى أن قال - :
وبعض المحدثين يتشدد فلا يروي حديث من اتصلوا بالولاة ،
ودخلوا في أمر الدنيا مهما كان صدقهم وضبطهم ،
وبعضهم لا يرى في ذلك بأساً متى كان عدْلاً صادقاً ،
وبعضهم يتزمت فيأخذ على المحدث مزحة مزحها ....
إلى غير ذلك من أسباب يطول شرحها ،
ومن أجل ذلك اختلفوا اختلافاً كبيراً في الحكم على الأشخاص ،
وتبع ذلك اختلافهم في صحة روايتهم والأخذ عنهم " .
ويقول في فجر الإسلام
" وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح ،
فأهل السنة يجرحون كثيراً من الشيعة ،
حتى إنهم نصوا على أنه لا يصح أن يروى عن علي
ما رواه أصحابه وشيعته ، إنما يصح أن يروى ما رواه
عنه أصحاب عبد الله بن مسعود ،
وكذلك كان الشيعة من أهل السنة فكثير منهم
لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت وهكذا ،
ونشأ عن هذا أن من يُعَدِّله قوم قد يجرحه آخرون ،
قال الذهبي :
" لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ، ولا تضعيف ثقة " ،
ومع ما في هذا القول من المبالغة فهو يدلنا على
مقدار اختلاف الأنظار في التجريج والتعديل " .
ويقول " أبو رية " : " إن علماء الجرح قد اختلفوا في الجرح والتعديل باختلاف مذاهبهم وأحوالهم " .
ولرد هذا الكلام المتهافت ينبغي أن يعلم بداية أن التجريح والتعديل
لم يكن متاحاً لأي أحد ، وأن المسألة لم تكن بهذه الفوضى والعشوائية
التي يريد أن يصورها هؤلاء ، وذلك لخطورة الجرح وعظم مسؤوليته أولا ً ،
فإن الكلام في أعراض الناس والإقدام على الطعن في المسلمين
مزلة أقدام ، وشفا هلكة ،
قال ابن دقيق العيد رحمه الله :
" أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان المحدثون والحكام " .
والأمر الآخر أن ذلك يتطلب من الأهلية والمُكْنة
ما لا يمكن أن يصل إليه إلا القلة من جهابذة النقاد والمحدثين ،
الذين لديهم اطلاع واسع على الأخبار والمرويات وطرقها ،
ومعرفة تامة بأحوال الرواة ومقاصدهم وأغراضهم ،
والأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الوهم والخطأ ،
مع معرفة بأحوال الراوي وتاريخ ولادته ، وبلده ، وديانته وأمانته وحفظه وسلوكه ،
وشيوخه وتلاميذه ، ومقارنة مروياته بمرويات غيره إلى غير ذلك ،
وهي منزلة لا يصل إليها كل أحد ، وليس أدلَّ على ذلك من أن رواة الأخبار
كثيرون يعدون بالألوف ، وأما النقاد الحاذقون فإنهم قليل
لا يتجاوزن أصابع اليد في كل طبقة ،
وهؤلاء الأئمة الذين بلغوا هذه المرتبة لم يبلغوها
إلا بعد استيفائهم للشروط التي تؤهلهم للتصدي لهذا الأمر .
وقد قام الأئمة بهذا الواجب حسبة لله ، وصيانة لدينه ، وحفاظاً على سنة نبيه ،
قال أبو بكر بن خلاد ليحي بن سعيد :
" أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماؤك عند الله ؟
فقال : لأن يكونوا خصمائي أحب إليَّ من أن يكون خصمي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقول : لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذب عن حديثي ؟"
فلم يكن الحامل لهم إذاً الأهواء أو الحظوظ النفسية أو غير ذلك
من المقاصد السيئة كما زعم المرجفون ، ولذلك لم يجاملوا أحداً
حتى ولو أقرب الأقربين ، فوجدنا منهم من يضعف والده وولده وأخاه ،
وقد سئل علي بن المديني عن أبيه فقال : اسألوا غيري ،
فقالوا : سألناك ، فأطرق ثم رفع رأسه وقال :
" هذا هو الدين أبي ضعيف " ،
وقال أبو داود صاحب السنن " ابني عبد الله كذاب " ،
وقال زيد بن أبي أنيسة : " لا تأخذوا عن أخي يحيى " ،
فكيف يقال بعد ذلك إن أحكامهم كانت صادرة نتيجة بواعث نفسية ؟ .
وقد وضع العلماء لهذا العلم قواعد وضوابط
فتكلموا في شروط قبول الجرح والتعديل ، وألفاظهما ومراتبها ،
وكيف يثبت تعديل الراوي وتجريحه ، وما هو العمل إذا تعارض الجرح والتعديل ؟
إلى غير ذلك من المباحث والقواعد المبسوطة في كتب المصطلح
وعلوم الحديث ، والتي تضمن نزاهته وعدم الحيف في الحكم على الرواة .
ومن ذلك أنهم اشترطوا في الجارح أن يكون مجانباً للهوى والعصبية
والغرض الفاسد ، فلم يعتمدوا أي جرح لا يستند على أصول شرعية
بل ردوه على قائله كائناً من كان ، ومن ذلك ما جرى بين الأقران والنظراء ،
لأن فلتات الألسن لا يسلم منها بشر فربما حدث غضب لمن هو من أهل التقوى ،
قال السبكي :
" الجارح لا يقبل منه الجرح وإن فسَّره في حق من غلبت طاعاته
على معاصيه ، ومادحوه على ذاميه ، ومزَكُّوه على جارحيه ،
إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة
في الذي جرحه ، من تعصب مذهبي ، أو منافسة دنيوية ،
كما يكون بين النظراء أو غير ذلك " .
وأما الزعم بأن الناقد قد يأخذ على الراوي مزحة مزحها فيُجْرح بسببها وترد روايته ،
فلا يخفى ما في هذا القول من التشويه والتلبيس المتعمد فإن المطالع
لكتب الجرح والتعديل يجد أنهم ينصون على ضرورة ذكر سبب الجرح وتفسيره ،
لأن الجارح ربما قدح بأمر ليس جارحاً في الحقيقة ،
وقد عقد الخطيب البغدادي - في كتابه الكفاية - باباً في
" ذكر بعض أخبار من استُفْسِر في الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة " ،
وأورد عدة أمثلة على ذلك تبين أن مثل هذه الأمور مما لا يقدح في الراوي ،
ولذلك لم يقبلها العلماء ولم يعولوا عليها .
وأما اختلاف الأئمة في الرواة بين مجُرِّح ومُعَدِّل فمردُّه إلى اختلاف الأنظار ،
وتباين الاجتهاد في أحوال الرواة حفظاً ونسياناً ، ووهماً وضبطاً ،
كما تختلف اجتهادات المجتهدين في الأحكام الفقهية ،
والمسائل الفرعية ، لأنه دخول وهم الرواي في حيِّز الكثرة أمر لا يوزن
بميزان معلوم ، وإنما يرجع فيه إلى التحري والاجتهاد .
فالمحدثون يستعملون سائر الشروط المقررة عندهم
ولكنهم يتفاوتون في تطبيقها بين متشدد ومعتدل ومتساهل ،
تبعاً لتطبيق هذه القواعد ،
يقول الإمام الذهبي مبيناً أقسام المتكلمين في الرجال ،
وكيفية التعامل مع أقوالهم :
1- قسم منهم متشدد في الجرح ، متثبت في التعديل ،
يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، ويُلَيِّنُ بذلك حديثه ،
فهذا إذا وثَّق شخصاً فعُضَّ على قوله بناجذيك وتمسك بتوثيقه ،
وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه ،
فإن وافقه ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق ، فهو ضعيف ،
وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه : لا يقبل تجريحه إلا مفسراً ،
يعني لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلاً: ضعيف ،
ولم يوضح سبب ضعفه ، وغيره قد وثقه ، فمثل هذا
يتوقف في تصحيح حديثه ، وهو إلى الحسن أقرب ،
وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متشددون .
2- وقسم في مقابلة هؤلاء ، كأبي عيسى الترمذي ،
وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر البيهقي متساهلون .
3- وقسم كالبخاري ، وأحمد بن حنبل ، وأبي زرعة ،
وابن عدي معتدلون منصفون " .
وبذلك ندرك أن اختلاف المحدثين ناشئ عن تعدد اجتهاداتهم
كما هو الحال بالنسبة للفقهاء ،
ولكن هذا الاختلاف لا يجوز أن يتخذ وسيلة للادعاء بتعذر الحكم على الرجال،
وإضعاف الثقة بمنهجهم ، فهم وإن اختلفوا في بعض الأسباب
فقد اتفقوا في كثير منها .
وأما الاستدلال بعبارة الذهبي التي قال فيها :
" لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن ، على توثيق ضعيف ، ولا تضعيف ثقة " ،
فهو استدلال في غير موضعه ، وفهم على غير مراده ،
فقد فهم " أحمد أمين " من العبارة أنه لم يتفق اثنان على
توثيق رجل ولا على تضعيفه ، بل من يوثقه هذا يجرحه ذاك ،
والعكس بالعكس ، وهو خلاف المقصود من العبارة عند تدقيق النظر ،
فإن الإمام الذهبي رحمه الله قال
- بعد أن تكلم عن مسائل في الجرح والتعديل ، واختلاف الأنظار في ذلك - :
" ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى ،
لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأ ،
فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ، ولا على تضعيف ثقة ،
وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة ، أو مراتب الضعف ،
والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده ، وقوة معارفه ،
فإن ندر خطؤه في نقده ، فله أجر واحد والله الموفق " ،
فعُلِم من ذلك أن مراده أن علماء هذا الشأن متثبتون في نقد الرجال ،
فلم يقع منهم أن اختلفوا في توثيق رجل اشتهر بالضعف ،
ولا في تضعيف رجل عرف بالصدق والتثبت ، وإنما يختلفون
فيمن لم يكن مشهوراً بالضعف أو التثبت ، فلن يختلف اثنان
مثلاً في توثيق مالك والثوري وابن المبارك وأمثالهم ،
ولن يختلف اثنان في جرح محمد بن سعيد المصلوب وأمثاله ،
وإنما يختلفون في متوسط الحال كمحمد بن إسحاق صاحب المغازي والسير ،
و الحارث الأعور فيتشدد فيه بعضهم ، ويقبله آخرون لتعدد جهات الضعف عندهم ،
واختلافهم في بعض أسبابها .
وأما الادعاء بأن الاختلاف المذهبي والطائفي كان له
تأثير على الحكم على الرواة وتجريحهم ،
فإن أهل السنة لم يكونوا يجرحون مخالفيهم من أهل الأهواء والبدع
إلا إذا كانت بدعته تؤدي إلى كفر ، أو وقوع في صحابة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - أو أن يكون داعية إلى بدعته
لأن الداعية قد يحمله تزيين بدعته على تحريف الروايات
وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه ، أو لم يكن داعية
ولكن حديثه موافق لما يدعو إليه ، ويرون في ذلك كله
ما يشكك في صدقه وأمانته ، فالخلاف في التجريح بين
أهل السنة وغيرهم راجع في الحقيقة إلى الشك بصدق الراوي
وعدالته وضبطه لما يرويه ، وليس إلى مجرد الخلاف المذهبي الطائفي ،
وهي قاعدة ثابتة عند المحدثين .
ولذلك وجدنا أصحاب الكتب الستة وفي مقدمتهم الشيخان
يحتجون بأحاديث جماعة من المبتدعة الثقات في كتبهم
ماداموا مستوفين لشروط الرواية ، فقد حدَّث البخاري
عن عباد بن يعقوب الرواجني الذي كان يقول فيه ابن خزيمة :
حدثنا الصدوق في روايته ، المتهم في دينه عباد بن يعقوب ،
واحتج بمحمد بن زياد الألهاني وحريز بن عثمان الرحبي ،
وهما ممن اشتهر عنهما النصب ،
وعمران بن حطان الخارجي ، وأبان بن تغلب الذي قال فيه الذهبي :
" شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته " ،
وذلك لعمر الله قمة العدل والإنصاف .
فعلم مما سبق أن المحدثين لم ينطلقوا في توثيقهم وتجريحهم ،
وتصحيحهم وتضعيفهم من الأهواء والأمزجة ،
وإنما انطلقوا من قواعد متينة وأرض صلبة ،
فاشترطوا في الجارح شروطاً عالية ، ومؤهلات دقيقة ،
وجعلوا لذلك آداباً وأحكاماً ، وجوزوه بقدر الحاجة ،
ولم يقبلوا منه إلا ما كان موافقاً للأصول والقواعد ،
فجاءت أحكامهم في منتهى الدقة والنزاهة ،
فجزاهم الله عن أمة الإسلام خير الجزاء .
__________
المراجع :
- أصول منهج النقد عند أهل الحديث د.عصام البشير
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الأمين الصادق الأمين
- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي د.مصطفى السباعي
- منهج النقد في علوم الحديث د. نور الدين عتر
مقالات إسلام ويب