إن اختصاص الله تعالى بتصريف الأقدار وتقسيم الأرزاق لا يعني مطلقًا
جبر الإنسان على أفعاله ولا الظلم في تصريف أقداره.
ذلك أن عِلم الله تعالى بأفعال كل خلق من خلقه،
وما ستكون عليه خاتمته وجزاؤه ومصيره، هو علم سابق لا سائق، ينتج عنه الكَشف لا الجَبر.
بمعنى أن الله يعلم مسبقًا علمًا شاملًا محيطًا بكلَّ ما سيصدر عن كل مخلوق في كل حين.
ثم اختص نفسه سبحانه بهذا العلم ولم يطلع عليه العباد.
فكل واحد من ثَمّ يسعى باختياره الحقيقي، وسعيه يُصدِّق ما علم الله قبلًا وما هو مكشوف عنده مسبقًا.
فإذا كنّا نندهش أحيانًا من تبدّل حال أحد أو تحوّله لشخص آخر مثلًا،
فهو عند الله تعالى مكشوف بلا مفاجآت ، لأنه تعالى مطلع بداية على حقيقة الحال.
ومما قد يقرّب هذا التصوّر مثال الأستاذ الذي يتوقع لطلبته ترتيبتهم ودرجاتهم
وفق ما اطلع عليه من أحوالهم طوال العام، ثم توافق نتيجتهم النهائية في الامتحان توقعاته.
موافقة حالهم لتوقعاته لا تعني أنه أجبرهم، وإنما أن علمه بهم كان صائبًا في محله.
ولله تعالى المثل الأعلى، فهو جل وعلا لا "يتوقع" لأنه يعلم مُسبقًا ما خلق:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
ولعل أوضح تجلّ لذلك بين أيدينا هي سورة المسد:
هذه السورة نزلت في حياة أبي لهب، تقرر خاتمته ومصيره، وهو بعد على قيد الحياة!
كان بوسع أبي لهب أن ينطق الشهادتين – ولو كاذبًا – ليطعن في صدق القرآن
وصدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يفعل!
مع أنه كان حرًا ولم يجبره أحد على الاستمرار في الكفر،
وظلت الدعوة تدندن حوله، لكنه استمر على كفره وعناده،
حتى خُتم له بالخاتمة التي قررها الله له في القرآن من قبل وهو بعد على قيد الحياة!
لاريب إذن أنه تنزيل ممن عِلْمه محيط وشامل وأكيد بأن هذا الشخص
لن يؤمن مهما حصل، وستكون هذه خاتمته قطعًا، وقد كان.
هل يزعم أحد منطقيًا بعد ذلك أن أبا لهب كان مجبورًا على الخلود في النار؟!
نخلص من هذا إلى أن غاية التخطيط ومراده هو التعبد لله بمفهوم "الإعداد"
الذي أمرنا به، كما نتعبد بسائر الأفعال والعبادات، لأن الحرص على الإعداد
من علامات الجدية في تحمّل المسؤولية، خاصة حين ننظر للدنيا بالمنظور الرباني
على أنها حرث للآخرة ومزرعة لها ،
فمن يؤتيه الله أرضا ثم لا يهتم باستثمار كل شبر فيها ليحصد منه شيئاً؟
وأي بذور أغلى بالتعهّد من أنفاس الإنسان؟
وأي أرض أولى بالاستثمار من العمر؟
كذلكم قضى الله بأن يجعل للأمور سبباً،
ويجعل أخذ عبده بالأسباب من حسن طاعته والتوكل عليه.
فالأخذ بالأسباب هو فعل عبادة من بين أفعال في منظومة العبودية الشاملة لله تعالى،
أي أننا نأخذ بالأسباب تعبداً، لا تعلقاً بما تأتي به من نتائج، لأن الأسباب بذاتها
لا تؤدي لشيء إلا بما أذن الله به وقضى بأن جعلها كذلك.
وفي حق المؤمن فهو يتعامل مع مسبب الأسباب مباشرة
ويفوض له الأمر كله، وهذا لب مفهوم التسليم لله تعالى.
أما غير المؤمن بالله فيوكل لنفسه وتدبيره، فإذا نجح تدبيره فقد نجح في الدنيا
لكنه ما يزال خائباً في الآخرة، ونجاحه في الدنيا لأن الله قضى بألا يَحرِم ساعياً في الدنيا:
{كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
[الإسراء: 20].
وفي الحديث:
"لو كانتِ الدنيا تَعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء"
[الترمذي]؛
وإذا خاب تدبير غير المؤمن فقد خاب ليس فقط في الدنيا بل وفي الآخرة،
فهو في الحالتين خائب.
لكنه يوفق المؤمن لحسن التعامل مع كل السياقات بما يضمن حسن عاقبته
في المحنة والمنحة على السواء، في حين غير المؤمن لا يوفق لذلك
ويوكل لنفسه فعاقبته خسران في كل الحالات.
وهذا الفهم هو مضمون تقريره صلى الله عليه وسلم
"أمر المؤمن كله خير (أي في المحنة والمنحة):
إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له (أي كان تعامله بالشكر هو الخير وليس السراء في حد ذاتها)،
وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له (أي تعامله بالصبر هو الخير وليس الضراء نفسها)،
وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " (لأنه الذي يفقه "كيفية" التعامل مع أمر الله كما يريد الله).
واستمرارا ًلمفهوم الميزان الخاص للمؤمن عند الله، فقد يعجز عن أسباب
ومع ذلك يهيئ الله بفضله له توفيقاً ونصراً، وقد يأخذ بالأسباب تارة أخرى
ولا يبلغ ما توقع من نتائج، لأن سنن الأسباب والمسببات من جهة ليست ملزِمة
قطعياً لله تعالى وهو المتصرف كيف يشاء، فالله هو المانح والمانع،
وهو مسبب الأسباب والواهب بغير حساب.
ومن جهة أخرى لأن الأصل في هذه الدار الاختبار لا الجزاء،
وكل ما يوفّاه العباد هنا نفحات مما ينتظر في الدار الآخرة ليس إلا.
أما المؤمن الذي لا يأخذ بسبب التخطيط، فهذا مقصر في التعبد بهذا السبب
الذي وصّى به الله تعالى، ومن هنا يكون التقصير في توكله بحسبه،
وينتهي به المطاف محتاراً متخطباً مشتت الجهود في مسارات الحياة
مع أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد تركنا على محجّة بيضاء ونهج واضح
لا يزيغ عنه إلا هالك، في تصورات الوجود وفي دقائق الأعمال كذلك.
ففي حين يقطع صاحب الإعداد الطريق على بصيرة ويوفر على نفسه ومن عمره كثيراً
من مزالق التجارب غير المسددة، ويحسن التعبّد لربه باستكماله الوسع في استثمار أنفاسه،
تجد الثاني يخبط في عمى ولو بحسن نية، ولو أحسن التوكل لأحسن الفهم،
ولو أحسن الفهم لاستكمل من الأسباب ما وسعه، لأن سنن الله تعالى في الكون والحياة
والتقدير وسداد السعي بيّنة، وليست دراما غامضة كما قد يخيل للكثيرين بسبب قلة الفقه.
خلاصة مفهوم التوكل
" أن يتعب البدن ويستريح القلب"،
فاسع ببدنك وصلّ بقلبك، واستعن بالله في كل أمرك .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في كل آن.
هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة ومحاضرة ومترجمة في مجالات الفكر والأدب والتهذيب الذاتي وبناء الشخصية.
مؤلفة روايات وأدبيات تربوية وفكرية، ومختصة بالتوجيه والتدريس اللغوي (العربية والإنجليزية)
وتطوير المناهج التعليمية والتربوية والتدريبية.
حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.