[size=27]المسلم بين تطوير الذات والاستسلام للقدر[/size]
محمد شلبي محمد
كثيرٌ من الناس يجد صعوبة بالغة في الجمع بين الرضا بالقضاء والقدر،
وبين الطموح ومحاولة تنمية النفس ورفْعها إلى مكانات دنيويَّة سامية.
والذي حمَلهم على ذلك فَهْمهم الخاص لأحاديث الرضا والإقرار بالقَدَر الإلهي،
حتى خُيِّل لبعضهم أن أي محاولة لتغيير أوضاعهم سوف تكون اعتراضًا منهم على قَدَر الله تعالى.
ومن ثَمَّ يَفهم الفقير أن رضاه بقدر الله يفرِض عليه ألا يَطلُب أسباب المال،
ويَرْوُون في ذلك أحاديثَ صِحاحًا تَمدح الفقراء، وتُصبِّرهم بما لهم عند الله تعالى،
وأحاديثَ أخرى صِحاحًا في مدْح الزهد وعدم العَبِّ من الدنيا.
ويفهم المريض أن رضاه بالقدر يَفرِض عليه السكون والقَبُول بالمرض،
وربما يعتبر أن ذِكْره ما به لأحد من الناس نوع من الشكوى.
ويفهم الجاهل أنه لا ينبغي أن يُطوِّر من نفسه،
وأن الله لم يضعه في مصافِّ العلماء،
وهكذا يكون تفكير كثير من الناس.
وللفقراء نقول:
قد دفع الله - تبارك وتعالى - الفقرَ عن الرسول
- صلى الله عليه وسلم - فجعل له خُمْس المغنم، وقال:
﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾
الضحى: 8]،
حتى كان هو - صلى الله عليه وسلم -
الذي يُنفِقه في سبيل الله، ويظل الشهرين لا يُطعَم طعامًا تُستوقَد له النار.
وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بدفع الفقر بطرق كثيرة.
منها:
أنه كان يَحُث على العمل:
((لأن يَحتطِب أحدكم حُزمةً على ظهره،
خير له من أن يسأل أحدًا، فيُعطيه أو يمنعه))؛
البخاري: 2074.
ويُبيِّن أنه من صفات الأنبياء:
((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمِل يده،
وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده))؛
صحيح: الجامع الصغير وزياداته: 10483،
وحين سئل: أكنتَ ترعى الغنم؟ قال:
((وهل من نبي إلا وقد رعاها؟))؛
البخاري: 3406.
ويعلِّم الصحابة أدعية تدفع الفقر؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ:
ألا أعلِّمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينًا لأدَّاه الله عنك،
قل يا معاذ:
((اللهم مالك المُلْك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء،
وتُعِز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير،
رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء،
ارحمني رحمة تُغنيني بها عن رحمة من سواك))؛
صحيح الترهيب والترغيب للألباني: 1821.
وينصَحهم بأسباب الغنى:
((إنك إن تَذَرَ ورَثتَك أغنياء خير من أن تذرهم عالَة يتكفَّفون الناس))
؛
البخاري: 1295.
ولم يكن أحد من الصحابة إلا ويعمل إلا من كان به ضَررٌ مُقعِد..
أو فَقَد إلى العمل سبيلاً.
وعامة فليست الأحاديث التي تَحُث على العمل تُعارِض الأحاديث
التي تدعو إلى الزهد؛
فإن الزهد لا يتحقَّق معناه الكامل إلا عن غنى؛
لأن الفقير لا يعرف من نفسه صفتها حين تغتني.
ويقال للمرضى:
سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قالوا:
يا رسول الله، أنتداوَى؟ قال:
((نعم يا عباد الله تداوَوْا؛ فإن الله - عز وجل -
لم يضع داءً إلا وضَع له شفاءً؛ غير داء واحدٍ))،
قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((الهَرَم))؛
صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد للبخاري: 291.
حتى اعتبر العلماء الرجل منتحرًا
إذا ترك التداوي قصدًا حتى يقع به الموت.
ويقال لقليل العلم:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إن الله أوحى إلي أنه: مَن سلَك مسلكًا
في طلَبِ العِلم سهَّلتُ له طريق الجنة))
؛
صحَّحه الألباني في الجامع الصغير وزياداته: 2607.
وعبَّر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "أوحى"
تعظيمًا لشأن طلَب العلم.
ولا شك أن هؤلاء إنما أُتُوا من قِبَل أفهامهم.
فالإيمان بالقضاء والقدر لا ينافي الأخذ بالأسباب أبدًا.
لقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له: ففيمَ العمل؟
لمَّا بين لهم كتابة أهل الجنة وأهل النار:
((اعملوا فكلٌّ مُيسَّر لما خُلِق له))؛
مسلم: 2648.
فأرشدهم إلى الأخذ بالأسباب في نفس الوقت الذي
أمرهم فيه بالتسليم لأمر الله تعالى وقدَره.
ومعلوم أن نظرة هؤلاء القاعدين عن تطوير أنفسهم
لو عُمِّمت على كل عنصرٍ من عناصر النشاط الإنساني
فسوف تتوقف حركة الحياة لا محالة.
فالزارع إذا ترك زرْعه لقَدَر الله وقضائه دون أن يأخذ
بأسباب الرعاية له فلن يجنِ أبدًا منه ثمرة.
والعامل لو قعَد عن العمل واستغرق في التطوعات
لن ينزل عليه الرزق من السماء، إن السماء
- كما يقول عمر بن الخطاب - لا تُمطِر ذهبًا ولا فضة
ولما قال الله تعالى:
﴿ ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
[الأعراف: 96]،
لم يكن هذا معناه الرزق دون الأخذ بالأسباب؛ لأنه قال:
"بَرَكَاتٍ" ولم يقل: أرزاق، وهو مُشعِر بوجوب الأخذ بالأسباب
التي أمر الله بها إذ قال:
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾
[الملك: 15]، فلن يأكلوا حتى يمشوا في مناكبها.
ثم إنهم إذا فعلوا ذلك مع الإيمان والتقوى،
فسوف يفتح الله عليهم البركات فيما اكتسبوه من رزقه بعد أخْذهم بالسبب.
إن الله تعالى قدَّر الخير والشر، ولكنه لم يُرِد أن يستمر الشر بعباده،
وإنما جعله عقابًا يَردُّ به المذنبين، وانتقامًا يستأصل به الكافرين،
وابتلاء يَميزَ به الصالحين من الطالحين.
ثم الخَلْق كما هم مكلَّفون بالصبر على البلاء،
مكلَّفون بدفع البلاء بقَدَر استطاعتهم،
والله تعالى كما أمرنا بالرضا بقدره أمرنا بالسعي إلى رزْقه،
والذي يعصي في الثانية كالذي يعصي في الأولى،
كلاهما آثم؛ لأنه عصى أمر الله تعالى.
إن الرضا بالقضاء والقدر بمعنى الاستسلام له
إنما يكون عند المصائب،
وفيما جاء دون الطموح بعد الأخذ بالأسباب،
أو خارجًا عن طاقة العباد
وعن إرادتهم؛ رجاء أن ينفع في التصبير ويمنع
من الظن السوء بالله تعالى.
فإذا بذَل المرء وُسْعه في الأخذ بالأسباب
ثم جاءت النتيجة على غير ما يتوقَّع، فثم الرضا مطلوب.
الأسباب نسبية:
والأسباب نِسبية وإن كان الأخذ بها غير نسبي؛
فهي يمكن أن تكون أي شيء،
حتى إنها لتصير من باب الأقوال بدلاً من باب الأفعال،
قد تكون دعوة مُخلِصة من فم مضطر.
وقال الله تعالى حاكيًا عن عيسى - عليه السلام -:
﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾
[مريم: 25].
إن هناك أسبابًا لا تُناسِب المرجو أبدًا،
إلا أن الله تعالى يُقدِّر بها الخير ويقر بها العيون.
وقال تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾
[الأنفال: 60].
قد كانت هذه الاستطاعة بعضُ حصى حصب به النبي
- صلى الله عليه وسلم - وجوه الكفار.
لا بد أن تكون النفس المسلمة على درجة
من الإيجابية تُمكِّنها
من اختراق صخور اليأس والنفاذ إلى سماء الأمل.
الأخذ بالأسباب من القدر:
ومما يفوت على بعضهم أن الأخذ بالأسباب قدر؛
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾
[القمر: 49]؛
فنحن ندفع القدرَ بالقدر، كما يدفع الدعاءُ القدرَ
ويُغالِبه في السماء،
ولا يَرُدّ القدرَ إلا الدعاء؛
صحيح الترهيب والترغيب للألباني: 1638،
لأن الدعاء من القدر كذلك.
إنه من الإيمان والرشاد أن يسعى كل امرئ لتطوير ذاته
ولا يرضى عن نفسه حتى يَزيد ويزيد،
فإن كانت الأخرى فالرضا بقضاء الله الحكيم.