موضوع: "الرافعي ورسائل الأحزان" السبت يوليو 25, 2020 10:47 pm
مقال بعنوان "الرافعي ورسائل الأحزان"
أتذكرُ أنهُ منذ فترة لا تقل عن أربعة أعوام وقعت عيني على كتاب كان عنوانه يحمل اسم "السحاب الأحمر"، وبالطبع كان أسم الكَاتب معروفٌ لدي، ولكن تلك المعرفة كانت معرفةٌ سطحية ليس لها معنى. في الغالب قرأتُ منه جُملةً أو جملتين، ولكنني لم أجدُ قلبي معهُ، فزهدتُ فيه، مع أنني من أُولئك الذين يَجدون لذتَهم في أسماء الكتب، وذلك العنوان كان جديرًا بأن يَفتنَني، ولكن لا أعلمُ ما حدثَ لي حينها!
ومرت سنتين، والحياة مُتقلبة_ على حالها الدائم _ وتقلبها يُشبه تَقلب القلوب التي ترمز نَبضَاتِها إلى وجود حياة مادية لا روحية، والتقلب في منظوري هو المعنى الذي تَستديمُ به وَتيرة الحياة، وفي أثناء هذا التقلب المُعتاد تأهبت منطلقًا في طريقٍ جديد كنت أخشى ولُوجَهُ من قبل، ولكنني سرتُ فيه على الرغم مني، حتى أصبح الطريق يَسيرُ بداخلي، ويحمل كل خواص الطريق التي قد تَصلُ بها لمُبتغاك، أو تَضلُ بها وتَشقى.
كنتُ تائهًا، مُشتتًا، فارغًا من كل شيء، مُملقًا لأدنى شيء يَجعلُ للحياة بداخلي معنى، فَفزعتُ إلى ملجأي الذين أجد فيه سكوني وراحتي، فَفتشتُ في كتبي، وكأنني أبحث عن شيءٍ ما أعرفه بتمَامهِ، غير أنني لا أمتلكُ عنوانهُ، وفي أثناء بحثي الحثيث، وجدت كتابًا يُطل برأسهِ نحوي، فأحسست أنه هو الذي عنه أبحث، وبدأت في قراءته قراءة الملهوف لمحض رفيق يُلقي عليهِ آلامه وأحزانه.
كان هذا الكتاب هو "رسائل الأحزان" للأستاذ الأديب أمام العربية مصطفى صادق الرافعي _ رحمهُ اللّٰه _ ولا أُخفِيكُم سرًا أن الذي جذبني لهذا الكتاب لم يكن عنوانهُ، بل ما جذبني كان مَحض ألم قد تَفشى في فؤادي وفَتَك بسويداء قلبي المسكين، حتى رأيت أنني لا أقرا كتابًا كتبهُ شخصٌ غيري، لا بل أحسستُ أنني أنا الذي يَخطهُ بيده، بل ويتفنن في صياغة معاني الحزن، وإخراج بيان الألم في صورة تامة لا مِرية فيها.
تلكَ الرسائل على ما تَحملهُ من صعوبة في مُفرداتِها، وجزالةً في مُصطلحَاتِها، وقوةً في تعبيراتِها، إلا أنها تُوحى بشيء ما لم ألحظهُ في بداية أمري، ولكنَّني مع الاسترسَال في قراءتها بل ومُصَاحبتِها مصاحبةً تامة، وجدتُ أنني على حق فيما كنت أظنهُ وألحظهُ، وهذا ما أمتعني!
الذي يَنظرُ إلي الرافعي _رحمهُ اللّه_ يَعلم تمام العلم أنه صاحبُ قلب قبل أن يكون صاحب قلم، وأنني أبصر معاشر الكُتَاب على دَربَين: كاتبٌ يكتب بقلم قلبهُ وشعوره ويتفنن في هذا، وإذا به يترك جماليات اللغة وجزالتِها، والأخر يكتبُ بقلم اللغة الجمالي ويُنحي شعوره وأحساسه وقلبهُ. فالأول يَنسج من روحهِ وقلبهِ خيوط رفيعة وضعيفة، يُشْكلُ بها نسيجٌ رقيق، فإذا وضع هذا النسيج على ميزان الفن، فإنه لا ينافس غيره، على بما يحمله من شعور واحساس، غير أنه ضعيف واهن، إذا لاطفتهُ رياح الواقع فإنها قد تسبب فيه ضرر لا ينفع معه الترقيع. وأما الثاني فإنهُ لا يمتلكُ إلا قواعد لُغويةً قوية، غير أنها لا تحمل معنى قلبي ولا قالبً شعوري، فما هي إلا كالنسيج الثَخين، خُيوطَهُ مُتشابكةً ومُترابطة، فإذا نظرتَ إلى هذا النسيج وجدتَهُ علي أحسن ما يَجدُ الرجل الذي يُريدُ ثوبًا ليَرتَديهِ في المَغَازي والحروب، أما أن تَضعهُ علي مِيزان الفن فإنه لا يُساوي شيء، فما هو إلا ثوبًا لا فن فيه.
وإذا نظرتَ للرافعي نَظرةً خاطفة، تجد أنهُ رجلًا آتاهُ اللّه قلم القلب والشعور، وقلم اللغة القوية، وكل هذا قد تعلمهُ في نظرةً خاطفة _ وقد هنا على التحقيق _ فما بالك بتمحيصٍ وتَدقيق ومُصاحبةٍ لميراث هذا الرجل الذي قلَّما أن يَجودُ الزمانُ بمثلهِ، لأن الذي قدمه الرافعي في نثرهِ وشعرهِ لم يَكن إلا محض فن، وهذا ما شعرت به مع (رسائل الأحزان)، فإنني تذوقت حينها أن الرافعي كان يرتَدي ثوب الحزن وهو يَنسجُ تلك الرسائل، أحسستُ بنبضات قلبهِ، بسكنات أنفاسهِ، بحركات دموعه وهي في محاجرها، باختناق هواء صدرهُ عند الغوص في المعاني، وفزع روحه عند تذكر الأماني، لذلك فإنني أجد الأديب الحقيقي لا ينزع عنه ثوب اللغة وثوب الشعور والاحساس، غير أن الرافعي قد أزاد علي ثوبي اللغة والشعور ثوب التعايش، لأن الأديب قد ينزع من جذور اللغة ما ينفعهُ، وهو صاحب قلب وشعور، لكنه لم يتلبث بهذا الشعور، فما هو الآن إلا مُصتنع لهذا الشعور، وهذا الأمر مُستساغ ولا يُعاب على فاعلهُ، ولكن إن كان الأديب صاحب لغةً وقلب وأحساس، ثم غلف كل هذا بتجربةً عاشها بل وغاص في قاعها، فإنك تجدُ حينها عملًا فني لا يَشُوبه شائبة، لأنه قد أعطي كل جوانب الفن حقها.
فهذا هو الشىء الذي لم ألحظهُ في بداية قراءتي، وعند الاسترسال وجدت وكأن الرافعي ينسج من خيوط أحزانهُ وشعوره ولغتهُ فنًا، وهذا ما علمته بعد ذلك عندما قرأت كتاب (حياة الرافعي) للأستاذ الأديب محمد سعيد العريان، فعلمت فحوى ما مر بالرافعي مع تلك الفاتنة التي جالت في نَفسهِ وروحهِ وأخرجت منهُ ذلك الفن الذي نثره فيما بعد في السحاب الأحمر، وأوراق الورد، وبدأتُ أُمعِنُ النَظرَ في مؤلفاتُهِ، وأستمع إلى أقوال الناس فيهِ، فتعجبتُ من ذلك الرجل، وعلمت تمام العلم أن لقب "أعجوبة الأدب العربي" لم يَنَالهُ هكذا اعتباطًا أو مجاملةً حاشَا للّه، بل إن اللقب قد ازدَادَ حُسنًا وجمالًا عندمَا وُضع بعد أسم مصطفى صادق الرافعي.
ولا أُخفيكُم سرًا أنني قد انتَهيتُ من قراءة (رسائل الأحزان) في أيامٍ مَعدودة، غير أن أحزاني لم تنتَهي، ولم يَكن لي أرادةً في انتهاءها، ومع مرور الوقت علمت أن وقود الفن بداخلي هو في تلك الأحزان، فبدأت في جَمعِها كما جَمعَها الرافعي، غير أنني لم أخطُها بقلمي وأنثرها بين دفتي كتاب، بل كان جَمعي لها هو جمعٌ لشَتات نفسي التي تَاهت في وسط تلك الأحزان، أما الرافعي فظل في نفسي أمامًا ومُرشدًا ومُعلمًا، وستظل كتاباتَهُ بالنسبة لي هي كتابات الإمام الذي ألهب الفن الروحي في ضمير هذه الأمة الإسلامية العربية. رحِمك اللّٰه يا إمام وقَدس رُوحَك.