| موضوع: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ...المفهوم والدلالة الخميس مايو 21, 2020 8:55 pm | |
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإنَّ الله عز وجل فَرَض الصيام علينا كما فَرَضَه على مَن كان قبلنا، يُشير إلى ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، غير أنَّ صيامنا ليس مماثلًا لصيام من قبلنا تمام المماثلة، فالتشبيه هنا فِي أصل الفرضية وليس فِي كيفيته أو توقيته، وفي قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} عدة دلالات ومقاصد حَسَنة ، أحْبَبْت أنْ أسلط الضوء على أهمها في النقاط التالية:
الدلالة الأولى: وحدة الدين أصولًا ومقاصد: لمَّا كَانَ الصوم من الشرائع التي هي مصلحة للخلق في كل زمان؛ أخبرَ سبحانه أنه كَتَبَه علينا كما كَتَبَهُ على الذين مِن قَبلِنَا، وفي ذلك إشعار بوحدة الدين أصوله ومقاصده؛ يشير إلى ذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "المعنى: أوصيناك يا محمد بما أوصينا به الانبياء قبلك ، وذلك لأن دين الانبياء واحد؛ في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، وبما يَرُدُّ الْقَلْبَ والجوارح إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنا وأذية الخلق بأي نوع من الايذاء، والاعتداء على الحيوان بأي نوع من الاعتداء، واقتحام الدناءات وما يعود بخَرْم المروءات، فهذا كله مشروع دينًا واحدًا ومِلَّةً متحدةً، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي: اجعلوه قائمًا، بمعنى دائمًا مستمرًّا محفوظًا مستقرًّا من غير خلاف فيه ولا اضطراب، فمِنَ الخَلْق مَنْ وَفَّى بذلك ومنهم مَن نَكَث. واختلفت الشرائع فيما وراء ذلك حسبما أراده الله مما اقتضته المصلحةُ والحكمةُ في كل زمان". انتهى من تفسير القرطبي. وقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء أنَّ دين الأنبياء واحد"، وذكر تحته قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياءُ إخْوَةٌ، أبناءُ عَلات، أُمَّهَاتُهم شَتَّى، ودِينُهم واحد». وَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ: الْإِخْوَةُ مِنَ الأَب وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى... ومعنى الحديث: أَنَّ أَصْلَ دينهم واحد، وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية.
الدلالة الثانية: تربية النفوس وتهذيبها لا تؤخذ إلا من المنابع الصحيحة: بعث الله عز وجل الرسل لتزكية النفوس؛ فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم. ولا شك أنَّ تزكية النفوس كما يقول الإمام ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين): أصعب من علاج الأبدان وأشد. فمَن زكَّى نفسه بما لم يأت به الرسل: فهو كالمريض الذي عالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟! فالرسل أطباء القلوب. فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم. وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد، والتسليم لهم. انتهى كلامه رحمه الله. وهو طريقٌ يوافق الفطرة دون إرهاق أو حرج ولا انعزال عن الحياة، كما لا يحتاج الإنسان معه لمثل هذا الابتداع والتَّكَلُّف والمَشَقَّة في رياضة النفس وتهذيبها من ترك الكلام، والجلوس في الشمس، وترك النظافة، والعزلة، والعيش على طعام واحد، بل وصل الأمر إلى إفساد العقيدة، وفتح الباب للخرافات والشركيات وإسقاط التكاليف، والتعلق بالأوهام، وإشاعة روح الخمول والكسل في نفس الإنسان وجَسَده .
الدلالة الثالثة: حِرَاسَة الثوابت: في عصرنا هذا؛ باتت المسلَّمات والثوابت وما هو معلوم من الدين بالضرورة محل نقاش وأَخْذ ورَدٍّ، بعد أن تواصى كثير من الحاقدين والمنكرين الشانئين بإهدار فريضة الصوم شكلًا ومضمونًا؛ فتراهم يدعون إلى الإفطار بحجة أنَّ الصوم يعطل الإنتاج!! و يغرقون الأمة في مستنقع التفاهة والضياع؛ يريدون بذلك هدم الدين وتحقير شعائره، كل هذا تحت دعاوى التجديد والحداثة والتنوير وحرية الرأي، وهذه كلها أسلحة تُشهَر فقط في وجه الإسلام، أما إذا كان الحديث عن مذاهب وأباطيل المذاهب والمعتقدات الأخرى ، فتُغمد هذه الأسلحة، وتنقطع الثرثرة، وتختفي الأصوات، ويهدأ الصَخَب!! وقد صدق فيهم قول القائل:
منَ الناسِ مَنْ يَغْشى الأَباعِدَ نَفْعُه ... ويشْقى به، حتى الممات، أَقارِبُهْ فإِنْ يَكُ خَيرًا، فالبعيدُ يَنالُهُ ... وإِنْ يكُ شَرًّا، فابنُ عَمِّكَ صاحِبُهْ
حتى قسمتهم المزعومة "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، لم يلتزموا بها؛ فهم في اعتداء دائم وتجريف مستمر لحق الله، ودعوة متكررة لصرف الناس عنه. أمَّا ما كان لقيصر فله العناية والرعاية والحفظ والاهتمام والتوحش والتوغل، وقد كثرت هذه الطائفة في عصرنا هذا كثرةً تجعلك كما يقول الإمام ابن القَيِّم (ت: 751هـ): " تقضي من ذلك عَجَبًا، وتتَّخذ في الأرض سَربًا، فتارةً تعجَب، وتارة تَغضب، وتارة تبكِي، وتارة تضحَك، وتارةً تتوجَّع بما نزل بالإسلام وحلَّ بساحةِ الوحي!!!". فجاء هذا الجزء من الآية ليؤكد على أنَّ حقائق الدين وثوابته أصلب من أنْ تَنَال منها الشبهات والأوهام، أو تتأثر بميوعة الأفاكين في كل زمان ومكان.
الدلالة الرابعة: أنَّ الشاقَّ إذا عَمَّ سَهُلَ تَحَمُّله: في هذا الجزء من الآية تطييبٌ لأنفس المخاطَبين؛ فإنَّ الصوم عبادة شاقَّة، والأمور الشاقة إذا عَمَّت كثيرًا من الناس؛ سَهُل تَحَمُّلها ورغب كل أحد في عملها. ولكي نُقَرِّب هذا المعنى نضرب مَثَلًا فنقول: المصاب إذا شاركه غيره في مصيبة، حصل له بالتأسي نوعُ تخفيفٍ وتسليةٍ، وتأسَّى بعضُ المُصَابِين ببعض؛ كما قالت الخنساء في أخيها صَخْر:
فلولا كثرةُ الباكينَ حَولي ... على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفســــي وما يَبكُون مثلَ أخي ولكن ... أُسَلِّي النَّفسَ عنهم بالتأسِّي
الدلالة الخامسة: الحثُّ على التنافس في الخيرات: في هذا التشبيه تنشيطٌ لهذه الأمة، وإثارة لعزائمهم لتلقي هذه العبادة ، ولبيان أن أمر الصيام ليس من الأمور الثقيلة التي اخْتُصوا بها ، وكي لا يتميز بها من كان قبلهم. فالإسلام يربي أبناءه على ان يكون كل واحد منهم عالي الهمة لا يقنع بالدون؛ بل هو في تطلع دائم إلى الأكمل والأحسن، يستشعر أنه في ميدان سباق، فيأخذ أهبته، ويعد عدته، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. وكما قال سبحانه عن عباده الصالحين: { واجعلنا للمتقين إمامًا}[الفُرْقَانِ: 74]. أَيْ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الخَيْرِ. هذا آخر ما وقفت عليه من دلالات. نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
| |
|