ان المعاصي الباطنة أشد خطرًا من المعاصي الظاهرة،
وبعبارة أخرى:
معاصي القلوب أشد خطرًا من معاصي الجوارح،
كما أن طاعات القلوب أهم وأعظم من طاعات الجوارح،
حتى إن أعمال الجوارح كلها لا تقبل إلا بعمل قلبي، وهو النيِّة والإخلاص
.كثير من الناس لا يكادون يعرفون من المعاصي والذنوب، إلا ما يدركه الحس،
وما يتعلق بالجوارح الظاهرة، من معاصي الأيدي والأرجل، والأعين والآذان،
والألسنة والأنوف، ونحوها مما يتصل بشهوتي البطن والفرج،
والغرائز الدنيا للإنسان ولا يكاد يخطر ببال هؤلاء:
الذنوب والمعاصي الأخرى التي تتعلق بالقلوب والأفئدة
ونقصد بمعاصي القلوب ما كانت آلته القلب، مثل:
الكبر، العجب، الغرور، الرياء، الشح، حب الدنيا، حب المال والجاه،
الحسد، البغضاء، الغضب، ونحوها،
مما سماه الإمام الغزالي في (إحيائه): المهلكات،
أخذًا من الحديث الشريف:
((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).
الفرق بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس اللعين
معصية آدم كانت معصية جارحة، حين أكل من الشجرة،
ومعصية إبليس كانت معصية قلب، حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين.
معصية آدم كانت زلة عارضة، نتيجة النسيان وضعف الإرادة،
أما معصية إبليس فكانت غائرة متمكنة، ساكنة في أعماقه.
لهذا ما أسرع ما أدرك آدم خطأه واعترف بزلته،
وقرع باب ربه نادمًا تائبًا هو وزوجته:
(قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
(الأعراف: 23).
أما إبليس، فاستمر في غوائه، متمردًا على ربه، مجادلاً بالباطل، حين قال له:
(يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ *
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)
(سورة ص: 75، 76).
ولهذا كانت عاقبة آدم:
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(البقرة: 37).
وكانت عاقبة إبليس:
(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)
(سورة ص: 77، 78).
كبائر القلب
الكبر
قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}
وقول الله تعالى: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
العجب
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
"الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب".
الرياء والسمعة
لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
"إن أول الناس يقضى عليهم يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد في سبيل الله فأتى به فعرفه نِِِعَمَهُ فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت في سبيلك حتى قتلت. قال له: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال هو جريء فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفه.ا قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه فأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك. قال الله: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار"
اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله
قول الله تعالى:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}،
وقوله:{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
"أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله"
سوء الظن بالله
قول الله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}
وقول الله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} الآية،
وقوله:{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} الآية.
روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
"أكبر الكبائر سوء الظن بالله" رواه ابن مردويه.
إرادة العلو والفساد
قول الله تعالى:
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً}
العداوة والبغضاء
وقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية،
وقوله:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} الآية.
الفحش
قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية،
وقوله:{إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية.
مودة أعداء الله
قوله تعالى :{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}
قسوة القلب
وقول الله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}
الحسد
( عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا
ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ") رواه مسلم .
الحقد
لقد وصف الله أهل الجنة وأصحاب النعيم المقيم في الآخرة بأنهم مبرئون
من كل حقد وغل، وإذا حدث وأصابهم شيءٌ منها في الدنيا فإنهم
يُطهرون منها عند دخولهم الجنة:
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) [الأعراف:43].
ولهذا رأينا مَن يُبَشَّرُ بالجنة من بين أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم لسلامة صدر
وإنما اشتد خطر هذه المعاصي والذنوب لعدة أمور
أولها: أنها تتعلق بالقلب، والقلب هو حقيقة الإنسان،
فليس الإنسان هو الغلاف الجسدي الطيني الذي يأكل ويشرب وينمو،
بل هو الجوهرة التي تسكنه، والتي نسميها:
القلب أو الروح أو الفؤاد، أو ما شئت من الأسماء.
وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام:
((ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله،
وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))
متفق عليه عن النعمان بن بشير.
وقال:
((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))
رَواهُ مسلم.
وجعل القرآن أساس النجاة في الآخرة هو سلامة القلب،
كما قال تعالى على لسان إبراهيم:
(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)
(الشعراء: 87 - 89).
وقال ابن القيم: سلامته من خمسة أشياء:
من الشرك الذي يناقض التوحيد ومن البدعة التي تناقض السنة،
ومن الشهوة التي تخالف الأمر، ومن الغفلة التي تناقض الذكر،
ومن الهوى الذي يناقض التجريد والإخلاص.
ثانيها: أن هذه الذنوب والآفات القلبية، هي التي تدفع إلى معاصي الجوارح،
فكل هذه المعاصي الظاهرة إنما يدفع إليها: اتباع الهوى، أو حب الدنيا،
أو الحسد، أو الكبر، أو حب المال والثروة، أو حب الجاه والشهرة، أو غير ذلك.
حتى الكفر نفسه، كثيرًا ما يدفع إليه الحسد، كما حدث لليهود، فقد قال تعالى:
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا
حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109).
أو يدفع إليها الكبر والعلو في الأرض، كما قال تعالى عن فرعون وملأه
وموقفهم من آيات موسى عليه السلام:
(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)
(النمل: 14).
أو حب الدنيا وزينتها، إن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية، كان سببها الحسد،
وذلك في قصة ابني آدم
(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
(المائدة: 27) إلى أن قال تعالى:
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
(المائددة: 30).
وكذلك كل من ارتكب معصية ظاهرة من شهادة زور أو نميمة، أو غيبة أو غيرها،
فلابد أن وراء تلك المعاصي شهوة نفسية، وفي هذا جاء الحديث:
((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا،
وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا))
(رَواهُ أبو داود وَالحَاكِمُ عن عبد الله بن عمر، كما في صحيح الجامع الصغير (2678).
ثالثها: أن المعاصي الظاهرة التي سببها ضعف الإنسان وغفلته، سرعان ما يتوب منها،
بخلاف المعاصي الباطنة، التي سببها فساد القلوب، وتمكن الشر منها،
فقلما يتوب صاحبها منها، ويرجع عنها.
وهذا هو الفارق بين معصية آدم، ومعصية إبليس.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد والغل والرياء والضغينة واجعلنا احب القلوب اليك