موضوع: موقف من "الإعجاز العلمي" الجمعة فبراير 12, 2021 2:02 am
موقف من "الإعجاز العلمي"
بغض النظر عن أصل التعريف المنطقي والمدلول اللغوي، وبالتجاوز عن تفكيك المصطلح والبحث في إسناد "العِلم" المشار إليه فيه، هل هو العلم الإلهي أم العلم التجريبي الحديث science، فإن "الإعجاز العلمي" باختصار أضحى متعارفًا عليه في الأوساط العلمية والدعوية أنه: "إظهار السبق العلمي في المصدر النقلي (القرآن أو السنة) لمكتشفات علمية تجريبية حديثة"، لا سبيل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش في القرن السادس الميلادي في قلب الجزيرة العربية إلى معرفتها.
وقد عرَّفته "الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة" أنه: إخبار القرآن أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول محمد مما يظهر صدقه فيما أخبر به عن ربه، فيُستَدَل بذلك على كون النبي مُعَلَّمًا من مصدر فوقي متعالٍ عن معهود عصره، مصداقًا لوعد الله بإظهار آياته بقوله: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
وبعيدًا عن مناقشة مدلول الآية، فإن الإعجاز العلمي أقرب ما يكون إلى ما عبَّر عنه من تكلم في "دلائل النبوة"، أو "أعلام النبوة"، أقرب ما يكون لدليل "الإخبار بالغيوب الصادقة"، وهي ماضية وحالَّة ومستقبلية بالنسبة لزمان نزول الوحي.
كما في قوله تعالى مثلًا: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ﴾ [هود: 49].
فموضوع هذه الآية تفصيل قصة نوح عليه السلام، وهو إخبار غيبي من جهة "الماضي"، والإعجاز العلمي إنما هو من جهة "المستقبل"، وفي كلَيْهما لا سبيل للوصول إلى المعلومة بالمصادر المتاحة في ظرف نزول الوحي الزماني والمكاني، فتعيَّن أن يكون ذلك وحيًا من عند الله، مع اقتران ذلك بدعوى محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة.
وبهذا المعنى ومن حيث البناء الاستدلالي، فالإعجاز العلمي مقبول، بل مقصود مطلوب إذا انضبط في شرطين:
1- صحة تفسير الآية بأن يوافق اللغة وقواعد الدلالات وأقوال السلف.
2- صحة المقالة العلمية بأن تكون ثابتةً، لا مجرد نظرية أو فرضية.
وزيادةً في تثوير القضية، أذكُر هنا أن براهين النبوة وطرق العلم بالرسالة، غير منحصرة في نوع من الأنواع، وهي كثيرة متضافرة، كما هو معلوم لدى المشتغلين في دلائل النبوة؛ (يُنظَر كتاب "شرح" الأصبهانية لابن تيمية رحمه الله من ص٥٣٧ إلى ٧١٥، وكتاب "درء التعارض" ص٥١ وما بعدها).
قال شيخ الإسلام: "طُرق العلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وتفاوت الطرق في معرفة قدر النبوة والنبي، متعددة كثيرة؛ إذ النبي يخبر عن الله أنه قال ذلك... ولكلٍّ من حال المخبِر والمخبَر عنه والمخبَر به، ومِن حال المخبَرين دلالة على المطلوب.....".
وختامًا:
من أمثلة الإعجاز العلمي "الصحيح":
• مراحل تكوين الجنين في رحم أمه من خلال قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، في حين كان علماء الطب يقولون بنظرية "الإنسان القزم"، حتى اكتشفوا حديثًا بالدليل القاطع مراحل تكوينه طبقًا لِما في القرآن الكريم.
• كون منطقة غور البحر الميت أخفض مساحة على اليابسة من خلال قوله تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ [الروم: 1 - 3].
ويُذكر أن في صدر سورة الروم أكثر من إخبار غيبي صادق.
ومن أمثلة الإعجاز العلمي "الخاطئ":
• القول بوجود حشرة متناهية في الصغر على ظهر البعوضة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26]، فليس فوق البعوضة حشرة، ولا هذا المقصود في الآية، بل المقصود ضرب المثل.
• ولو اقتصر الداعية على بيان ما في خلق البعوضة من إتقان وعناية إلهية، لكان هذا من أقوى البراهين على ربوبية الله تعالى، وكمال قدرته وحكمته.
فمعلوم أن كل دليل على النبوة هو دليلٌ على الربوبية، وليس كلُّ دليل على الربوبية دليلًا على النبوة.
ومن الملاحظ أن كثيرًا من النماذج المقدَّمة اليوم من غيرِ المتخصصين، غيرُ مطابقة للشروط، وخاصةً حين يتم التعامل مع القرآن الكريم على أنه كتاب علوم، بينما هو كتاب هداية دينية منهجية تضمَّن إشاراتٍ علومية، وما أجمل تلك العبارة التي قالها أستاذنا الداعية المشهور د. ذاكر نايك:
• Quran is not a...Book of SCIENCE but it is a Book of SIGNS...
لذا، فإن هذا الباب بحاجة إلى ضبط وانتباه (للمصطلح والتفسير والتنزيل)، وإلا كان مدخلًا لاستهزاء الملاحدة وغير للمسلمين، والتشكيك في القرآن بدلًا من أن يكون هذا الأفُق الجديد من التدبُّر سبيلًا لإبهارهم وهداية قلوبهم وعقولهم، والله أعلم.