يظنُّون أنَّ خَلْعَها لزوجِها قبل سنين كان بسبب تقصيرٍ ظاهرٍ فيه، وبُخْلٍ ولُؤْمٍ وقِلَّة رُجُولة، والحقُّ أنه كان بسبب حُبِّها الشديد للكمال، وبَحْثِها عن زَوْجٍ كالملائكة لا يُخطئ، عن زوج يقتُلُ نفسَه من أجْلِها!
يظنُّون أنَّ هذا البيتَ المنيف نَعِيمٌ على صاحبه، وسَبَبٌ من أسباب سَعْدِه وتوفيقه،لكنَّه كان في الواقع سَبَبَ تكبُّرِه وهِجْران أهله، وبُعْد أصحابه وعذابه ووحدته.
يظنُّون أن عُبوسَه في وجوههم، وتَرْكَ السلام عليهم، كان كِبْرًا وتَرَفُّعًا، وسُوءَ طَبْعٍ وخُلُقٍ، لكنَّه في حقيقة أمره كان في صراعٍ نفسي، واضطرابٍ عقلي، وماضٍ أسْوَدَ كالحٍ!
يظنُّون أن سُخْريتَه المتتابعة، وتعليقاتِه الضاحكة خِفَّةُ رُوحٍ وبَداهة وحضور فِكْر، لكنها لم تكن سوى صوتٍ دامِعٍ من أصوات انهزامِه وتكسُّره.
يظنُّون أن ثناءه الكبير على نفسه، وكثرة تعداده لفضائله - ثِقةٌ وقوَّةٌ ومعرفةُ ذاتٍ، لكنَّه كان حِرْصًا شديدًا على سَتْر هشاشته، ودَفْن ماضيه المليء بالخيبات!
يظنُّون أن سفراته المتتابعة إلى الدول الأوربية الخضراء - تَرَفٌ ونَعِيمٌ وسَعة مال وبال، لكنَّه كان يبحث عن علاج يُعِينُ جَفْنَه على إغفاءة تُعِيدُ له قَرارتَه المسلوبة منذ زَمَنٍ!
يظنُّون أن ابتسامتَه المشرقة، وكَرَمَه المتتابع، وانشراحَه للمعروف - طَبْعٌ في جذوره، لم يصنعه يومًا، لكنَّه كان خوفًا من غضبهم وهِجْرانهم.
يظنُّون أن زُهْدَه في الزواج، وقطع الحديث فيه، وإسكات ناصحيه - بسبب علاقات مُحرَّمة تَوَرَّطَ فيها، لكنه كان أثرًا بليغًا من آثار الحرب الفكرية التي زَرَعتْها أُمُّه وأخواتُه في قلبه عن النساء وكيدِهنَّ!
يظنُّون أن صَمْتَ أبنائه وأدَبَهم الجَمَّ، من تعبه في تربيتهم، وجهده في إصلاحهم، لكن إطراقهم لم يكن إلا نتاج صُراخِه وتهديده وتخويفه ومواعظه حتى غدوا أصنامًا أمامَه وأمام الناس.
يظنُّون أن زواجه الصامت الذي أتمَّ عشر سنوات كاملات، كان زواجًا ناجحًا مُباركًا، لكنه في عَجاجةٍ لا تسكُن، وفي شقاء لا يُتمَنَّى لعدوٍّ، وعيبُه الخفيُّ أنه يخشى التخلُّص من العلاقات السيئة المؤلمة!
يظنُّون أن الهمَّ لا يعرف دروبَ قلبِه، بسبب إشراقة بَسْمتِه، وبرودة أعصابه، وكثرة مرويَّاته الضاحكة، لكنَّهم لم يشعُروا ساعةً بأنَّ في دواخله حُمَمًا بُركانيةً قاتلةً!
يظنُّونه بعد تغيير اسمه ونحْت جسمه وتبديل عمله - رجلًا مُتفرِّدًا مُبدِعًا، لا يصبر على الأنماط القديمة، لكنه كان يُحارب بألمٍ وحْشَ فراغِه وغيابَ ذاتِه الذي كان ينهَشُه منذ فَجْر طفولته!
يظنُّون أنه يبحث عن الحقِّ، يدخل في حوارات كثيرة، وتحمرُّ وجوهٌ في إقناعه، وتتصاعَدُ التوتُّرات في مجالسه، لكنه في الحقيقة كان يُحاوِرُ من أجل الحوار ليملأ وقت فراغِه ويدفَعَ مَلَلَه، وحين يخرج ينسى حتى اسمه!
يظنُّون أنَّ تأخُّرَ زواج أبنائها؛ من حرصها الشديد في التنقيب عن زوجات صالحات، لكن الحقيقة الخفيَّة أنها تعتقد في أعماقها أن أبناءها كأثاثِ بيتِها مِلْكٌ لها وحْدَها.
يظنُّون أن كثرة أصدقائه ومعارفه بسبب رحابة صدره، وبياض قلبه، وطلاقة يده، لكنه في الحقيقة كان ملولًا، سريع النقمة، سريع الغضبة، يستبدلهم في طرفة عين، إنْ أحسنوا وإنْ أساؤوا!