موضوع: أحمد بن أسحاق اليعقوبي السبت أكتوبر 17, 2020 3:32 am
أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح، أبو العباس الشهير بـ “اليعقوبي“، وبابن الواضح، مؤرِّخ جغرافي كثير الأسفار من مؤرخي العصر العباسي الثاني. وُلِدَ اليعقوبي في بغداد لأب من كبار عمَّال البريد، وقد كان جدَّه حاكماً لأرمينيا وحاكماً لمصر، ما يعني أنَّه غادر عاصمة الخلافة العباسية مبكراً مرافقاً لأسرته، ليعيش في أرمينيا وخراسان في كنَف الطاهريين (دويلة صغيرة أسَّسها طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون بن هارون الرَّشيد)، وبقي هُناك حتى سنة 873 م. وقد ساعده مركزه عند أمراء الأقاليم كالطاهريين والطولونيين ناهيك عن مكانة عائلته؛ من الحصول على المعلومات من مصادرها الأصيلة، ما أكسبها ثقة إضافية في أوساط الباحثين. مكانته العلمية:-
يعتبر اليعقوبي بحَّاثة في التاريخ، وأخبار البلدان، ولقد أعطى التنقيب حقَّه في سياحته في البلاد شرقاً وغرباً، ودخل بلاد فارس، وأطال المقام في بلاد أرمينية وكان فيها سنة 260هـ، ودخل الهند أيضاً والأقطار العربية، فالشام فالمغرب إلى الأندلس، وأغرق نزعاً في البحث فطفق يسائل أهل الأمصار عنها وعنهم، وعن عاداتهم، ونِحَلهم، وحكوماتهم، وعن المسافات بين البلاد، فإذا وثق بنقلهم أثبته في كتابه. وذكر مَنْ فَتَحَ البلاد من الخلفاء والأمراء ومبلغ خراجها، فلم يدع صغيرة ولا كبيرة وقف عليها إلا وأحصاها في الكتاب، فجاء مصنفه كتاب «البلدان» أقدم مصدر جغرافي، وأوثقه؛ لما تحمَّله في تأليفه من جهد وعناء وعناية وحسن بلاء. قيل: يمكن عدَّهُ معلماً جغرافياً للمسلمين، وقيل: إن الكثير من علماء الجغرافيا التالين لعصره؛ كابن الفقيه، وابن رُسْتَه، والمسعودي، والإِصْطَخْرِيِّ، وابن حَوْقَل، والمقدسي، وغيرهم، كانوا يعتبرونه أستاذاً لهم. مما لا مراء فيه أن اليعقوبي كان على مستوى عقلي رفيع واطلاع متنوع وثقافة علمية واسعة، الأمر الذي مكنه من اتحافنا بإنتاج علمي غني، وضع الأساس الذي بنيت فوقه عقول الأجيال اللاحقة إنتاجها العلمي. منهج اليعقوبي التاريخي:-
تأثر اليعقوبي في كتابه التاريخ بخلفيته كجغرافي بارع، لذا، فقد قام بتقسيم الممالك موضع دراسته تبعاً للأبعاد الجغرافية المكانية، إلى جانب تقسيمه للبعد التاريخي الذي تناوله والذي يبدأ من الأمم القديمة مرورا بتاريخ اليمن القديم، وصولاً إلى العصر العباسي. خالَف اليعقوبي سابقيه من المؤرخين المنتسبين إلى المدرسة التاريخية الكلاسيكية العربية الإسلامية، ممن اعتمدوا سياسة ومنهج الإسناد (سلسلة الرواة الذين يمكن تتبع الرواية عبرهم وصولاً إلى شاهد العيان الرئيسي) من قبيل محمد بن جرير الطبري. وقد سادَ منهج الإسناد طيلة أول قرنين تبعا تاريخ الهجرة النبوية، إلى أن جاء اليعقوبي في القرن الثالث الهجري، ليخطَّ لنفسه منهجاً مختلفاً يقوم على أساس الكتابة المرسلة دون إسناد، معتنياً بالخبر في ذاته ومناقشته. اليعقوبي يَعتبر كغيره من علماء العرب الذين أحسنوا توظيف المواد المبعثرة التي كانوا يجمعونها من كل موضع، ثم تجميعها، فصبّها في قالبهم، لتخرج متجانسة متمازجة استطاعت أن تكون بمثابة مخرجات تحاكي قرائحهم وعقولهم، حيث تتمثل فيها الوحدة والصفات الفائقة. يقوم منهج اليعقوبي أولاً على الاختصار، وثانياً على عدم التطويل، حيث صرح مثلاً في مقدمة تاريخه: “وجعلناه كتاباً مختصراً حذفنا منه الأشعار، وتطويل الأخبار”، لذا فقد جاء كتابه خالياً من حشو الكلام، متحاشياً ذكر الخرافات والأساطير التي اعتاد المسعودي على ذكرها، كما نأى بنفسه عن الأخذ بالتاريخ الفارسي واعتبره مليئاً بالخرافات. ويقول في هذا الصدد: ” ولهم أخبار قد أثبتت رأينا أكثر الناس ينكرونها ويستبشعونها لأن مذهبنا حذف كل مستبشع”. اليهودية والمسيحية:-
نرى اليعقوبي قد استخدم منهج النقد العلمي القائم على التحليل والمقارنة والاستنتاج، وعدم الانسياق في تصديق الأخبار دون تحليلها، فقد رفض الاقتناع بالأساطير الفارسية التي تسربت للتراث العربي الإسلامي، وأظهرها في كتبه بعض سلفه من المؤرخين العرب المسلمين. لكننا نجد أن اليعقوبي اعتمد على التوراة بشكل كبير في إيراد قصة النبي نوح عليه السلام وما تلا ذلك ثم ذكْر أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث، وقد أولى لأبناء سام اهتماماً خاصاً حيث ذكرهم بالتسلسل حتى تاريخ ابن ناحور الذي أسماه بإبراهيم خليل الله، كما استند إلى العهد القديم في تناول قصص الأنبياء إبراهيم، إسحاق، إسماعيل، يعقوب، موسى. كما أن اليعقوبي أولى الدين المسيحي اهتماماً كبيراً، إذ أورد قصة النبي عيسى عليه السلام، ثم سلَّط الضوء على الأناجيل الأربعة، متَّى، مرقص، لوقا، ويوحنا. نموذج لإحدى روايات اليعقوبي:-
“.. وكان سليمان معجباً بالنساء، فتزوج، فيما يُقال، سبعمائة امرأة، فيهن بنت فرعون ملك مصر، وعدَّة من نساء بني عمون، وعدَّة من نساء أهل مؤاب جبابرة الشام، ومن أدوم، ومن الجثانيين، وهم الصيدانيون، ومن الشعوب التي كان الله نهى عن مخالطتهم”. وزاد”..وكان له سبعمائة، فاتخذت امرأة من نساء سليمان تمثالاً على صورة أبيها، فلما رأى ذلك غيرها من نسائه فعلن كفعلها، فعاتب الله سليمان، وقال له : تُعبَدُ الأصنام في بيتك، ولا تُغضبك؟ لأسلبنَّك ملكك، ولأنزعَنَّ العزَّ من يدك، ولأفرِّقنَّ الأسباط من ولدك، ولكنَّي أحفظ أباك داود فيك، فلا أسلبك المُلكَ بقية عمرك، ولا أسلب جميع الأسباط، ولكني أدع لكَ في يدك سبطين لئلا يذهب ذكرك. مآخذ على منهجية اليعقوبي:-
يؤخذ على اليعقوبي تحامله التَّام على الأمويين وانتقائه مصادر معادية لهم، موالية لأعدائهم من عباسيين وهاشميين، وهو الأمر الذي ساهم في الإخلال بتوازن طرحه التاريخي الذي كان من المفترض أن يحمل صبغة الحيادية. وهنا، نحن لسنا بصدد الحديث عن ماهية الطرف الأكثر صوابية في ذلك الوقت، سواءً تعلق الأمر بالأمويين أو العباسيين، لكننا نشير إلى كيفية معالجة اليعقوبي لوقائع تلك المرحلة الحساسة من عمر التاريخ العربي الإسلامي، إذ بدا جلياً فيه انحياز المؤرخ الواضح لطرف على حساب الآخر، وهو ما جعله يركز على مثالب الأمويين وعلى حسنات الهاشميين وخصوصاً للأئمة الإمامية. وفي دراسة أجرتها الدكتورة شيخة أحمد الخليفي عام 2001 م؛ خلُصَت هذه الدراسة إلى أن اليعقوبي تبنى نهج كتابة التاريخ الموجَّه، أي من خلال تكوينه صورةً للماضي من شأنها أن تخدم صحة عقيدة أو مذهب أو توجه الكاتب الفكري.
وهنا تقول الخليفي: “.. ثم استخدم مهارته التي لا شك فيها ليعرضها و يصوغها صياغة تُخرِجُ الخلفاء الأمويين وشخصيات العصر الفاعلة من أعوانهم بصورة مشوهة تستثير الذم والاستنكار، وتدعو للاعتقاد بمخالفتهم للدين وأوامره، وكملوك وليسوا خلفاء كما يدعون ويلقبون أنفسهم”. كتب اليعقوبي:-
تاريخ اليعقوبي، انتهى به إلى خلافة المعتمد على الله العباسي. البلدان. أخبار الأمم السالفة. مشاكلة الناس لزمانهم. فتح إفريقية. المسالك والممالك، الذي أشار له أبو الفداء. وفاة اليعقوبي:-
اختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاة اليعقوبي فقد قال ياقوت الحموي: إن ذلك كان في سنة 284 ه،، وذكر سواه 282 هـ، وقيل: 278 هـ، أو بعدها، ورجَّحت رواية ناشر الطبعة الثانية من “تاريخ اليعقوبي”؛ وفاته في حدود سنة 292 هـ، أي 905 م، وذلك لأنه عُثِرَ في كتاب “البلدان” (صفحة 131 طبعة النجف) على أبياتٍ له نظمها ليلة عيد الفطر سنة 292 هـ.