يخطئ بعض الناس حين يظن أن القرآن الكريم قد شوَّهَ صورة العمى وقبَّحَ منظر الأعمى لأنه أكثر من ذكر العمى. والأعمى في مواطن الذم والسوء وهذا ظن قد يساعده الشكل والمظهر ولكن الأمر يتبدل حين النظر الدقيق والبحث العميق وقد تتبعت الآيات الكريمة التي وردت فيها مادة العمى ثم بحثتها فلاحت لي فيها سمة غالبة هذه السمة هي أن القرآن لا يريد بمادة العمى في أكثر استعمالاته كف البصر وزوال الرؤية من العين ولكنه يريد بها ضلال العقل وسنة التفكير وخطل الرأي. ولنستعرض الآن طائفة من تلك الآيات لنتبين فيها ذلك.
يقول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة واصفا شأن المنافقين: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ وهؤلاء المنافقون مبصرون حسا ولكن القرآن أراد أن بهم عمى عن الحق وضلالا عن الهدى فما أراد القرآن العمى الحسي بل أراد العمى المعنوي وهو شر ما يعاب به الإنسان ويقول في سورة الأنعام: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]، ويقول في سورة يونس ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ والمراد به أيضا الضالون السفهاء الذين لا يستجيبون ويقول في سورة الإسراء ﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ والمراد الأعمى عن الحجة المنصرف عن الدليل ولو كان له بصر زرقاء اليمامة وفي سورة الحج يقول ﴿ فأنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ﴾ والآية لا تحتاج إلى تعليق فهي في الباب أوضح ما يكون ويقول في سورة النمل ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ والمقصود مفهوم ويقول في سورة فصلت ﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ فالمقصود بالعمى هنا هو الضلال لا فقدان البصر
ولذلك قوبل بالهدى وفي نفس السورة يقول عن القرآن ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [فصلت: 44] أي لا يفهمونه ولا يتأثرون به لبلادتهم وظلمة عقولهم وفي سورة محمد يقول عن المجرمين من الكافرين والمعاندين ﴿ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ﴾ أي أضلهم عن الإيمان فلا يهتدون إلى سبيل الرشاد ولذلك عقب الآية السابقة بقوله ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾. ويقول في سورة فاطر ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 19- 22] قال المفسرون هذه أمثال ضربها الله تعالى في حق المؤمنين والكافرين فقوله الأعمى والبصير أي العالم والجاهل ولا الظلمات ولا النور أي الكفر والإيمان ولا الظل ولا الحرور أي الجنة والنار وما يستوي الأحياء ولا الأموات أي المؤمنون والكافرون.
من هذا نرى أن أغلب الاستعمالات التي وردت في القرآن الكريم لمادة العمى أريد بها عمى القلب والعقل والروح لا عمى البصر. فإِذا أراد القرآن استعمال مادة العمى بمعناه اللغوي الأول وهو كف البصر لم يستعملها على وجه الذم والتقبيح بل يذكرها في مواطن الرحمة أو التخفيف فهو مثلا يقول... ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس:1-4]
فيذكر المكفوف هنا باللفظ الصريح لا ليتندر عليه ولا ليسخر منه ولا ليستهزئ منه. وإنما لكي يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا الأعمى كان في حاجة إلى الرحمة والإقبال لا إلى الأعراض أو الإمهال والقرآن الكريم يقول في آية أخرى ليس على الأعمى حرج فيذكر أيضا كلمة الأعمى بمعناها الأصلي وهو كف البصر ولكن في أي موطن ليس في موطن الذم والقدح والتجريح بل في موطن الرحمة والتخفيف.
وإذا فالقرآن لا يسخر من الأعمى كما يظن الجهال ولا يذكره ذاما أو ناقدًا وإذًا فاستشهاد الكثيرين بالآيات التي تتضمن مادة العمى في الحملة على المكفوفين أو السخرية بهم استشهاد يدل على عمى في القلب وبلادة في الشعور وقد التفت إلى هذا المعنى بعض العباقرة وذكروه في كلامهم
فقال إبراهيم التيمي. كفى بالمرء حسرة أن يفسح الله له في بصره في الدنيا وله جار أعمى فيأتي يوم القيامة أعمى وجاره بصيرًا وقال معاوية ابن أبي سفيان لعبدالله ابن عباس ما بالكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم وكان ابن عباس قد كف بصره في آخر حياته، فألقمه ابن عباس حجرًا حين أجابه قائلاً كما تصابون في بصائركم يا بني أمية،
وسمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلاً يقول: ما أشد العمى على من كان بصيرًا، فقالت يا عبد الله، عمى القلب أشد من عمى العينين في الدنيا، والله لوددت أن الله وهب لي كِفة محبته لوم يبق مني جارحة إلا أخذها.
وقال رجل للقاسم بن محمد: لقد سلب أحسن وجهك قال: صدقت غير أني منعت النظر إلى ما يلهي، وعوضت الفكرة في العمل فيما يجدي، والقاعدة التي نريد تثبيتها في الأذهان ولو بالإلحاح في الإعادة والتكرار، هي أن كف البصر ليس بعيب موجب للاحتقار وليس بنقص يعوق صاحبه عن السبق والتبريز في الحياة إذا هيئت له الوسائل والأسباب وكل ما يقال فيه هو أنه نقص جسمي لا يلام عليه صاحبه ولا يعاب وأحيانًا يهش له صاحبه ويفرح به إذ يريحه من سيئات وييسر له حسنات
ولعل أبا العلاء المعري أشار إلى ذلك من طرف خفي حين قال: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر. وكفيف البصر إذا أوتي الموهبة وواتته الظروف قد يعلو غيره من المبصرين وقد يسودهم في مواقف يقام لها كل ميزان, ومن أمثلة ذلك أن أبا العلاء المعري الضرير دخل ذات يوم على المرتضى بلا قائد فعثر في طريقه برجل وتعجل الرجل فقال من هذا الكلب فأراد أبو العلاء أن يرد عليه سبه بأقذع منه ولكن في أسلوب مطوي، ومن طريق غير مباشر, وفي الوقت نفسه يبين له أن هذا الضرير المشتوم أفضل في علمه وحفظه من البصير الشاتم، فأجابه أبو العلاء معرضًا به: الكلب يا هذا هو من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا؛ ومعنى هذا أن المعري يعرف للكلب سبعين اسمًا، وإلا لحق عليه باعترافه هو أنه كلب، وهذه عبقرية لغوية مدهشة, ومعناه أيضًا أن أبا العلاء يدرك أن شاتمه لا يعرف هذه السبعين، فهو إذًا كلب، ولما شاهد المرتضى ذلك قرب أبا العلاء وأدناه واختبره فوجده عالمًا مشبعًا بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه وهو ضرير إقبالاً شديدًا بعد أن ترك المبصرين وراءه ظهريًّا.
المصدر: مجلة كنوز الفرقان؛ العددان: (الخامس والسادس)؛ السنة: (الرابعة)، جمادى الأولى والآخرة 1371 هـ