عُرفت الفترة الأولى من بداية القرن الحادي عشر الميلادي بأنها الحقبة الزمنية التي بدأ فيها البيروني عمله البحثي في مسقط رأسه خوارزم، حيث كان حينها تحت رعاية آخر الحكام الأصليين لخوارزم (آسيا الوسطى).
استمر أبو الريحان البيروني في عمله حتى بداية غزو منطقة خوارزم من قبل محمود الغزنوي الذي اعتبر البيروني بمثابة أحد غنائم هذه الغزوة، ليقوم بنقله إلى مدينة غزنة (جنوب غربي كابل) في سنة 1010 م.
القانون المسعودي:-
بعد انقضاء عهد حكم محمود للدولة الغزنوية؛ تولى الحكم من بعده نجله مسعود الأول الذي أتاح المجال للبيروني ليتابع أبحاثه العلمية وكتاباته التي توقفت في عهد أبيه، وبالفعل استأنف العالم الموسوعي أعماله لينتهي سنة 1036 م من كتابه في علم الفلك المسمى “كتاب القانون المسعودي في الحياة والنجوم”.
مقدمة كتاب القانون المسعودي للبيروني – مكتبة قطر الوطنية
هذا الكتاب لم يقتصر على مجموعة من الجداول الفلكية وحسب؛ بل أردفه البيروني ببعض التقاليد الفلكية البتّانية (نسبة للعالم الكبير محمد بن جابر بن سنان البتاني المتوفى عام 854 م)، كما وأضاف إليه جداولاً لإحداثيات جغرافية توضح بالتحديد أماكن أهم المناطق في العالم حينها.
هذا الجدول الأخير يضم أكثر من ستمئة موقع ليكون أكبر من الجدول الذي وضعه العلّامة ابن يونس المصري (المتوفى عام 1009 م)، أو حتى الجدول الذي وضعه البتّاني.
مادة كتاب القانون المسعودي:-
أولاً: مبادئ علم الهيئة بإجمال وإيجاز.
ثانياً: علم التواريخ الرياضي، أي تواريخ الأمم المختلفة واستخراج بعضها من بعض. ثالثاً: حساب المثلثات خصوصاً المثلثات الكُروية. رابعاً: دوائر الكرة السماوية والإحداثيات الناشئة عنها،
وما ينجم بسبب حركة الكرة السماوية اليومية الظاهرية
حول الأرض من مطالع البروج في الفلك المستقيم وفي البلدان،
ومن سعة المشارق والمغارب، ومن ارتفاعات الشمس.. خامساً: صورة الأرض وأبعادها وكيفية تقويم أطوال البلدان
وحساب المسافة بين بلدين معروفي الطول والعرض وسمتُ القبلة… سادساً: حركات الشَّمس وكيفية تبيينها بشكل هندسي. سابعاً: حركات القمر وتوضيحها بشكل هندسي، وبيان اختلافات مناظر القمر. ثامناً: اتصالات النيرين وكسوفاتهما وحساب رؤية الهلال. تاسعاً: الكواكب الثابتة ومنازل القمر فيها. عاشراً: حركات الكواكب الخمسة المتحيرة في الطول والعرض
وبيانهما هندسياً ومقامات هذه الكواكب..
شخصية موسوعية:-
لم يكن البيروني شخصاً عادياً مثل الباحثين المهتمين في مجال ما فحسب، بل كان شخصية موسوعية، يُلم بالرياضيات، الفلك والعديد من الفروع الأخرى، فنجده ناقداً فطناً وقارئ نهماً يفكر ويطلع على كل ما يقع بين يديه، حيث تابع كل ما توصل إليه العلم اليوناني ودقق في النظريات الهندية، وكان يسعى بشكل مستمر إلى القيام بمقاربة ما توصلت له كل من الثقافات المختلفة ومواكبة ما يصل إليه زملائه من العلماء المسلمين في عصره.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] أبو الريحان البيروني -علم الفلك- رسم إيضاحي لأطوار القمر في كتاب التفهيم
إضافات جغرافية مهمة:-
كما عمل البيروني في حقل الجغرافيا، حيث قام بإدخال بعض الحسابات الفلكية والرياضية إلى المفاهيم الجغرافية التي يعرفها، فبحث في تفاصيل العلوم الجغرافية التي لم يتنبه لها العلماء السابقين له، كما وأضاف بعض التحسينات على الخرائط الإسلامية القائمة، والتي لم يقم راسمو الخرائط لاحقاً بأخذها بعين الاعتبار للأسف.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] العلماء المسلمون أسسوا قواعد علم الجغرافيا الحديث وذلك بعد تشذيبهم لمساهمات الإغريق
أبرز الإضافات الجغرافية للبيروني هو تحديده درجة خط العرض، وهو ما قام بالتركيز عليه في كل من غزنة وخوارزم، حيث اعتمد في تعيينه لهذا الخط على أسلوب قياس توصل إليه عبر ملاحظاته للأفق.
كما حاول البيروني قياس الفرق بين خطي طول يقع كل منهما في مكان مختلف، مقدراً المسافة بوحدة الأميال، وهذا الأمر لم يكن بالسهل وذلك نظراً لعدم وجود أداة تساعد على قياس المسافة بين الأماكن.
خطوط الطول:-
ولكن توصل البيروني إلى تحديد خط الطول الخاص بمنطقة، وقام بشرح النظرية التي استند عليها في تعيين إحداثياته ليمُكن من بعده أي عالم يرغب بالعمل وفقها، كما أنه أضاف نظرية تقوم على تحديد خط الطول، ليتمكن بكل بساطة من حساب جهة القبلة، أو التوجه إلى مكة المكرمة ومن أي بلد حول العالم.
ولم يكتفِ البيروني بكل ذلك؛ بل إنه توجه إلى انتقاد أعمال بطليموس وما وصل من أعمال مارينوس، إلى جانب العمل على تحديد أماكن الاختلاف وتصويبها.
كما أنه قدم عبر أعماله نوعين من الإسقاطات يعرفان اليوم بالإسقاط الكروي والاسقاط السمتي متساوي الأبعاد، ما يساعد على تحديد مناطق توزع المياه على سطح الأرض من بحار ومحيطات ويابسة.
من جاء من علماء المسلمين بعد البيروني تابعوا دراسة هذه النقاط والتوسع فيها، ولكن وللأسف لم يبنِ راسمو الخرائط على ما توصل إليه من نتائج، أو أنهم لم يخوضوا فيما توصل إليه من حسابات.
كما لم يجر من بعده تطبيق الاسقاط السمتي المتساوي أو التحديدات الجغرافية في مواضعها الصحيحة، ربما قام بذلك البيروني نفسه ولكن لم يصل إلينا ذلك كما أن أحداً من العلماء الذين خلفوه لم يأت على ذكر هذا الأمر.
ولكن ما هو مؤكد أن البيروني نفسه قام بإدخال التحسينات التي توصل إليها في خطوط الطول ضمن جداوله، ونُسخت في العديد من المخطوطات بعد وفاته.
جغرافيا المياه واليابسة:-
من أكثر الأبحاث التي توصل لها البيروني ويجدها العلماء مقبولة؛ هي تلك التي أدرج فيها توصيفه لتوزيع المياه واليابسة على سطح الأرض، وكان ذلك منطقياً تبعاً لما عرفه المسلمون من الاتصال بين الجزء الجنوبي الشرقي للقارة الإفريقية والامتداد الأرضي الواصل للصين.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] أبو عبد الله محمد الإدريسي يعد أهم راسم للخرائط في العصور الوسطى
حتى أن الجغرافي الأشهر، محمد الإدريسي (المتوفى عام 1165م) ومجموعة من راسمي الخرائط القدامى المنتمين للمدرسة البلخية، قاموا باعتبار أن الكتلة الأرضية الإفريقية كانت قد تمركزت في الجزء الجنوبي من الحوض المائي العالمي، العالم القديم الذي عرفوه.
الخريطة اليتيمة:-
و ينسب للبيروني خريطة وحيدة يتيمة تصور بشكل مبدئي التوزيع الأرضي كما فكر به، والتي تظهر ضمن مخطوطة “كتاب التفهيم لأوائل صناعات التنجيم” الذي تم إنشاء نسخ منه سنة 1238 م، وهي مخطوطة تعبر عن خريطة العالم الكروي.
في الواقع هذه المخطوطة تعبر عن تفرُّد فكر البيروني واستقلاله عن النمط السائد في العالم الإسلامي حينذاك، فقد أقدم في خريطته المذكورة على تقليص الامتداد الإفريقي الشرقي، ما أظهر المحيط الهندي أكبر وكأنه يغطي نصف الكرة الجنوبية للأرض.
لقد استعملت هذه الخريطة من قبل كتاب وجغرافيين لاحقين من قبيل زكريا القزويني (المتوفى عام 1283 م) الذي اعتمد على أجزاء من خريطة البيروني في عمله الجغرافي الفلكي المسمى “عجائب المخلوقات”، ومن دون أدنى شك، فقد تم الاعتماد عليها أيضاً في كل الخرائط اللاحقة التي رسمها المسلمون من بعد وفاة البيروني في غزنة في العام 1048 م.