الصداقة بين تأصيل ابن المقفع وأزمتها المعاصرة
معنى أصيل في الوجدان البشري، تناوله الحكماء بالتوصيف والتحليل،
ورسم أبعاده وسماته في نظم بليغ يفتخر به منسوبي هذه الحضارة الإسلامية الراقية، ويزهو به أصحاب
العقول الراجحة من عقلاء البشرية.
إلا أن المؤسف أن تغيرات واقعنا المعاصر قد شوهت معنى الصداقة الناصع وأصابته في مقتل تارة وبالتجريف تارة أخرى.
كما رسخها الأوائل إن أرادت أن تدب فيها الحياة كما كانت على عهدها وسالفها.
ابن المقفع الأديب المحنك هو عبد الله بن المقفّع، وكان اسمه روزبه قبل أن يسلم.
إلى أموال الدولة.انتقل مع والده من فارس إلى البصرة إحدى حواضر الدولة الإسلامية،
وكما تضلع بالفارسية في موطن نشأته، تضلع بالعربية في البصرة.
كان فاضلاَ نبيلاً كريماً وفياً، سُئل مرة: "من أدّبك"؟ فقال:
ومن المواقف التي تدلّ على صدقه ووفائه، أنه لما قُتل مروان بن محمد -آخر خلفاء بني أمية-
اختفى عبد الحميد الكاتب، فعُثِرَ عليه عند ابن المقفّع، وكان صديقه.وعندما سئِل الرجلان: أيُّكما عبد الحميد؟
قال كل واحد منهما "أنا" خوفا من ابن المقفع على صاحبه. ويكاد يجمع المنصفون على براعة ابن المقفع
وتفرده أدبيا، فقد قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة
أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
ابن المقفع والصداقة يقول رحمه الله: إذا نظرتَ في حال من ترتئيهِ لإخائك،
فإن كان من إخوانِ الدينِ فليكن فقيهاً غير مراءٍ ولا حريصٍ،
وإن كان من أخوانِ الدنيا فليكن حراً ليس بجاهلٍ ولا كذابٍ ولا شريرٍ ولا مشنوعٍ.فإن الجاهل
أهلٌ أن يهربَ منهُ أبواهُ، وإن الكذابَ لا يكونُ أخاً صادقاً؛ لأن الكذب الذي يجري على لسانهِ
إنما هو من فضولِ كذبِ قلبهِ، وإنما سمي الصديقُ من الصدقِ.وقد يتهمُ صدقُ القلبِ وإن صدقَ اللسانُ.
فكيفَ إذا ظهرَ الكذبُ على اللسانِ؟ وإن الشريرَ يكسبكَ العدو.
ولا حاجةَ لكَ في صداقةٍ تجلبُ العداوةَ، وإن المشنوعَ شانعٌ صاحبهُ.[الأدب الكبير] أي مستنكر ومستقبح لصاحبه.
ويقول: على العاقل أنْ لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس -ما استطاع- إلا ذا فضل في الدين
والعلم والأخلاق؛ فيأخذ عنه، أو موافقاً له على إصلاح ذلك فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل؛
فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيى ولا تنمى إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين.
وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته؛
ويقول: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛
وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته،
وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والفرار كل الفرار من اللئيم الأحمق.[كليلة ودمنة].
ويقول: واعلم أن انقباضكَ عن الناسِ يُكسبكَ العداوةَ. وأن انبساطكَ إليهم يكسبكَ صديق السوء.
وإن قطعتهُ شانك اسم القطيعةِ، وألزمك ذلك من يرفع عيبكَ ولا ينشرُ عذركَ. فإن المعايبَ تنمى والمعاذير لا تنمى.
ويقول: البس للناسِ لباسينِ ليس للعاقلِ بدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءةَ إلا بهما:
ولباسَ انبساطٍ واستئناسٍ، تلبسهُ للخاصةِ الثقاتِ من أصدقائك فتلقاهمُ بذاتِ صدركَ وتفضي إليهم بمصونِ
حديثكَ وتضعُ عنكَ مؤونةَ الحذرِ والتحفظِ في ما بينكَ وبينهم ..
وأهل هذه الطبقةِ، الذين هم أهلها، قليلٌ من قليلٍ حقاً.
لأن ذا الرأي لا يدخلُ أحداً من نفسهِ هذا المدخل إلا بعد الاختبارِ والتكشفِ والثقةِ بصدقِ النصيحةِ ووفاء العهدِ.
فإذا غلبَ عليهِ عقلكَ فهو لكَ، وإن غلبَ عليه شيءٌ من أشباهِ ما سميتُ لك فهو لعدوكَ.
فإنِ استطعتَ أن تحتفظ به وتصونهُ فلا يكونَ إلا لكَ، ولا يستولي عليهِ أو يشارككَ فيه عدوكَ، فافعل.
في تصور المجتمع الفاضل، فالقانون وحده لا يبني الثقة المجتمعية التي لا تحيا المجتمعات الإنسانية إلا بها،
ورابطة الدم وحدها لا تكفي لضمان العدالة.
ولم تخل فلسفة سياسية من تصور للصداقة منذ تحدث عنها أرسطو في كتاب القيم كأساس متين لعلاقة الأفراد،
في حين للتعامل مع الأغيار منظومة قيم مختلفة، مرورا بالتصور المسيحي في فكر أوغسطين الذي يعتبر
الأخوة المسيحية ورابطة العقيدة أساسا لتزكية النفس وفهم الذات.
وتوما الاكويني الذي يذهب إلى أن "معيار الخيرية" هو العطاء واعتبار الآخرين نظراء في البشرية.
ولكن صعود الحداثة وصعود الأيديولوجيات في القرون الخمسة الأخيرة قدم تصورات عن الاجتماع والاقتصاد
والسياسة، جعلت المصلحة والمنفعة معيار التواصل والتفاعل الإنساني وليس التوافق والألفة.
وتغيرت بناء على ذلك منظومة العلاقات الاجتماعية،
العقلانية وليس العاطفية إذ أطاحت بمركزية الصداقة بكل ما تحمله من معان والتي تأسست
على رابط العقيدة (دينية أم ثقافية) أو الجيرة أو الوفاء للذكريات المشتركة التي تقوم على الاختيار المحض
والميل القلبي حتى حين تقف على أرضية روابط القبيلة أو الدم، وحل محلها
علاقة «المواطنة» القانونية مع الدولة، وعلاقة التعاقد مع المجتمع (العقد الاجتماعي) وعلاقات المنفعة في الاقتصاد.
وأصبحت نظرية " الخيار الرشيد " التي تعتبر الإنسان كائنا يبحث عن تعظيم المنفعة الفردية هي الحاكمة،
العلاقات الوجدانية كالصداقة.فضلا عن تجفيف مواردها بفضل المؤسسية التي صارت وعاء للعلاقات،
فمن يشارك بناية السكن ليس الجار بل هو الساكن، ومن يشارك مكان العمل هو زميل العمل،
ومن يشارك المهنة عضو في النقابة، ومن يشارك في المال مساهم في نفس الشركة .. وهكذا.
ولكن حتى هذه الأفكار في تجليها الذي قلص من الروابط التي تقوم على المودة خارج المصلحة
المادية لم تستطع أن تحل أزمة الثقة بين الأفراد و " فطرة الائتناس "
فنجد في هوامش نظريات الحداثة مفهوم الإنسانية والخير العام، وتظهر بعد عقود طويلة في نظريات
المواطنة فكرة سياسات التعاطف والرعاية.ونجد آثار ذلك في الفكر الماركسي
مفهوم الرفاق وما يحيط به من معاني الترابط.
[د. هبة رءوف عزت، الصاحب من فهم الذات لتأسيس المجتمعات].
إن المادية الحديثة قضت على كثير من الروابط الوجدانية بين البشر وقادتهم، لحتفهم العاطفي،
والراحة والسكينة النفسية، فتقطعت الروابط بين الناس وزادت معدلات الجريمة وسائر مظاهر الجنوح السلوكي والوجداني،
الأمر الذي يحتاج من الجميع التكاتف من أجل رد الإنسان إلى إنسانيته وفضائله النبيلة التي تغذي روحه وتعدل سلوكه.
د. خالد سعد النجار
ياله من دين
المشرف العام الشيخ سلطان العمري