من نوادر العرب
تاريخ العرب قبل الإسلام مليء بالأحداث و الحكايات والقصائد ، وقد عرفت الأمم الأخرى عن العرب صفات كثيرة كانت هذه الفضائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فكان الشاعر يرفع بقصيدة شأن رجل فقير بين الناس ردّا للجميل على هدية كقصة:الأعشى و المُحَلّق الكِلابي و حكايات الملوك و الشجعان والشعراء والصعاليك التي تغني رصيد الادب الجاهلي بالاشعار و الأمثال و القصص.
وكنا كندماني جذيمةَ حقبةً *****من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
هذا البيت لمتمم ابن نويرة في رثاء أخيه مالك وهو يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك .
وضربت بهما الشعراء المثل. قال أبو خراش الهذلي:
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ***** خليلا صفاء مالك وعقيل
أما معنى قول متمم: وكنا كندماني جذيمة حقبة فإنه يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك، وهو جذيمة بن مالك بن فهم بن دوس بن عدثان الأسدي . وكان الخبر في ذلك أن جذيمة الأبرش-وأصله من الأزد، وكان أول من ملك قضاعة بالحيرة، وأول من حدا النعال، وأدلج من الملوك، ورفع له الشمع وكان جذيمة من أفضل الملوك رأيا، وأبعدهم مغاراً، واشدهم نكاية، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق، وكانت منازله مابين الأنبار وبقة وهيت وعين التمر، وأطراف البر والقطقطانة والحيرة.
-قال يوماً لجلسائه: "قد ذكر لي عن غلام من لخم، مقيم في أخواله من إياد، له ظرف ولب، فلو بعثت إليه يكون في ندماني، ووليته كأسي والقيام بمجلسي، وكان الرأي".
فقالوا: الرأي ما رأى الملك، فليبعث إليه.
ففعل فلما قدم فعل به ما أراد له،
فمكث كذلك مدة طويلةً ثم أشرفت عليه يوماً رقاش ، أخت جذيمة،
فلم تزل تراسله حتى اتصل بينهما، ثم قالت له:
" ياعدي، إذا سقيت القوم فامزج لهم واسق الملك صرفاً،
فإذا أخذت منه الخمر فاخطبني إليه فإنه يزوجك،
وأشهد القوم عليه إن هو فعل".
ففعل الغلام ذلك فخطبها فزوجه، وانصرف الغلام بالخبر إليها فقالت:
"عَرِّش بأهلك " ؛ ففعل فلما أصبح غدا مضرجاً بالخلوق،
فقال له جذيمة: "ما هذه الآثار يا عدي؟"
قال" آثار العرس".
قال: "أي عرس؟"
قال: "عرس رقاش ".
قال: فنخر وأكب على الأرض، ورفع عدي جراميزه،
فأسرع جذيمة في طلبه فلحقه و قتله ،وكتب إلى أخته:
حدّثيني رَقاشِ لاتَكذبيني ******** أبحُرٍّ زنيتِ أم بهجـينِ
أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لعبـدٍ ******** أم بدُوٍن فأنت أهلٌ لدونِ
قالت: بل زوجتني أمرأً عربياً.
فنقلها جذيمة وحصنها في قصره، واشتملت على حمل فولدت منه غلاماً وسمته عمراً وربته، فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة مثله ، ثم أرته خاله فأعجب به، وألقيت عليه منه محبة ومودة، حتى إذا وصف خرج الغلمان خرج الغلمان يجتنون الكمأة في سنة قد أكمات، فخرج معهم، وقد خرج جذيمة فبسط له في روضة، فكان الغلمان إذا أصابوا الكمأة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، ثم أقبلوا يتعادون وهو معهم يقدمهم ويقول:
هذا جنايَ وخياره فـيه ***** إذا كلُّ جانٍ يده إلى فيه
فالتزمه جذيمة وحباه وقرب من قبله، وحل منه بكل مكان.
ثم إنه اختفى ، فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه فلم يسمع له بخبر، فكف عنه.
ثم أقيل رجلان يقال لأحدهما عيقيل والآخر مالك، ابنا فالج، وهما يريدان الملك بهدية، فنزلا على ماء ومعهما جارية يقال لها أم عمرو، فتصبت قدراً وأصلحت طعاماً، فينما هما يأكلان إذا أقبل رجل أشعث أغبر، قد طالت أظفاره وساءت حاله، حتى جلس مزجر الكلب، فمد يده فناولته شيئاً فأكاه، ثم مد يده فقالت: إن يعط العبد كراعاً يتسع ذراعاً فأرسلتها مثلاً.
ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكات دنها، فقال عمرو بن عدي:
صَددتِ الكأسَ عنا ام عمرو ***** وكان المأس مَجراها اليمينا
وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمـرو ***** بصاحبِك الذي لا تَصبَحينـا
فقال: الرجلان: ومن أنت؟
فقال: إن تنكراني أو تنكرا نيبي، فإنني عمرو وعدي أبي ،
فقاما إليه فلثماه، وغسلا رأسه وقلما أظفاره، وقصرا من لمته،
وألبساه من طرائف قيابهما وقالا:
ما كنا لنهدي إلى الملك هدية أنفس عنده ولا هو عليها أحسن صفدا من ابن أخته،
فقد رده الله عز وجل إليه.
فخرجا حتى إذا دفعا إلى باب الملك بشراه به،
فصرفه إلى أمه، فألبسته ثياباً من ثياب الملوك،
وجعلت في عنقه طوقاً كانت تلبسه إياد وهو صغير،
وأمرته بالدخول على خاله، فلما رآه قال:
شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلاً.
وقال للرجلين اللذين قدما به: احكما فلكما حكمكما.
قالا: منادمتك مابقيت وبقينا. قال: ذلك لكما.
فهما نديما جذيمة اللذان مضرب لأمثال عند العرب.