مستودع الذخائر .. لقد اختار الكاتب الكبير الأستاذ أحمد أمين هذا العنوان الضخم للحديث عن المرأة ، ورمز بهذا الرمز لـ قلب المرأة ، وبأسلوب أدبي رفيع تكلم عن تأثير المرأة على الرجل في الحرب والسلام ، وفي مهام القتال ومهام الحياة ، ولم يغفل الكاتب الاستشهاد ببعض قصص المرأة في التراث الإسلامي والغربي .. مقال ممتع جاء في 869 كلمة و 61 فقرة ، يستغرق 4 دقائق و 10 ثوان للقراءة الصامتة
أين_ تظن _ مستودع الذخائر للأمة؟
وقد تجيب على الفور: إنه المطارات، ومخازن الأسلحة، ومستودع القنابل، وما إلى ذلك من أماكن تكدس فيها آلات القتال، وأدوات الحرب. إن أجبت بذلك فقد أجبت بالعرض دون الجوهر، وبالمجاز دون الحقيقة. وقد تتفلسف قليلاً، فتقول: إن ذخيرة الأمة هي جيشها المسلح بعَدده وعُدَدِه، ومرانه وتجهيزه، وفنونه وتشكيله. إن قلت ذلك فقد قاربت الصواب ولم تقله، وحُمْتَ حوله، ولم تقع عليه. فما قيمة الذخائر إن لم تجد رجالاً؟ وما ينفع السيف إذا لم تك قتَّالاً؟ إن السيف في يد الغِرِّ والحاذق كالقلم في يد الأميِّ والكاتب، بل ما ينفع الجندي المسلح إن لم يكن له بين جنبيه قلبٌ لا يهاب، ونفسٌ لا تفزع؟ الإجابة الحقة هي أن مستودع الذخائر للأمة قلب المرأة، قلب المرأة هو الجيش الأول الذي لا قيمة لقنابل، ولا طيَّارات، ولا غواصات، ولا دبابات، بدونه. وإن شئت فقل هو الطابور الخامس الذي لا يوقع الرعب والفزع في قلوب الأعداء شيء مثله. المرأة والرجل
لقد خُلقت المرأة من ضِلَع من أضلاع الرجل، ولكن سرعان ما تغير الحال؛ فخلق قلب الرجل من قلب المرأة. يخطئ من يظن أن لبن الأم ليس إلا نسبة معينة من الدسم، ونسبة معينة من الماء، وما إلى ذلك؛ فليس هذا كله إلا تحليلاً للمادة، وليست المادة كل شيء في اللبن. وإنما قصر تحليل الكيمياويين، فقصرت نتائجهم. إن في اللبن صفات خلقية، وصفات عقلية، وصفات روحية، وراء الصفات المادية، يرضعها الطفل كما يرضع مادة اللبن، فتتغذى بها روحه، وتتشكل منها نفسه؛ وليست هذه الصفات الروحية متطابقة دائماً مع الصفات المادية؛ فقد يحلل اللبن في معامل الكيمياء فيتبين من تحليله أنه المثل الأعلى للبن، وهو مع ذلك سمٌ خلقي ينفث الجبن، ويشيع الفساد، ويبعث الفزع والخور؛ على حين أن لبناً آخر ينقصه الدسم، ويعيبه التحليل الكيمياوي؛ وهو مملوء روحاً، ومملوء شجاعة ونشاطاً، ومملوء قوة، ومن أجل ذلك صدق الشاعر إذ يقول: ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه … وفي أثوابه أسدٌ مَزِيرُ ويعجبك الطرِيرُ فتبتليه… فيُخلفُ ظنَّكَ الرجل الطريرُ ثم إن اللبن الذي ترضعه الأم أولادها توعز إليهم الجبن أو الشجاعة بسلوكها؛ فإن هي ربتهم تربية الأرانب فأدفأتهم وأشبعتهم، وحاطتهم بكل ضروب العناية، ولم تسمح لهم أن يجربوا، وأن يخاطروا وأن يجازفوا، ثم حدثتهم من الأحاديث ما يخلع قلوبهم، ويحبب إليهم الحياة بأي ثمن، وعلمتهم أن لا قيمة للعقيدة بجانب حياتهم، ولا للوطن بجانب سلامتهم، وصاحت وولولت يوم يجندون، وفقدت رشدها يوم يسلحون، فهناك ترى صورة جند ولا جند، ويرى أشكال الرجال ولا رجال، وترى أجساماً ضخاماً وقلوباً هواءاً. التربية على مواجهة الصعاب
وإن هي ربتهم من صغرهم على المخاطرة والمجازفة، وحدثتهم أحاديث الأبطال وعظماء الرجال، وعودتهم مكافحة الحياة والتغلب على الصعاب، وعلمتهم أن المبادئ فوق الأشخاص، والوطن فوق حياة الأفراد، وعيرتهم يوم يفرون من واجب، وأنبتهم يوم يأتون بنقيصة، وفخرت بهم يوم يضحون لمبدأ، واعتزت بهم يوم يخاطرون لأمة _ فهناك الرجال، وهناك العزة، وهناك الشرف. ألست ترى معي بعدُ أن قلب المرأة هو الذي يخلق قلب الرجل؟. قَلِّبْ صفحات التاريخ إن شئت، فحيثما رأيت للأم قلباً رأيت للرجل قلباً، فإذا انخلع قلبها انخلع قلبه. إن هنداً بنت عتبة التي تخاطب الجيش بقولها: إن تُقبلوا نُعانِقِ … أو تُدْبروا نُفارِقِ … فراقَ غير وامِقِ هي التي أنجبت معاوية.
وأسماء بنت أبي بكر التي قالت لابنها: يا بني لا ترضَ الدنية؛ فإن الموت لا بدَّ منه، فلما قال لها: إني أخاف أن يمثَّل بي، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ_ هي التي أنجبت عبد الله بن الزبير. والتاريخ مملوء بهذه الشواهد في كل أمة. وظلت المرأة العربية على شهامتها ومعرفتها بأمور الدنيا حتى أصبحت المرأة ليست إلا رمزاً للمتعة، أو رمزاً للكيد؛ وتجادل الشعراء، فمنهم من يقول: إن النساء رياحينٌ خُلِقنَ لنا … وكلنا نشتهِي شَمَّ الرياحينِ ومنهم من يقول: إن النساء شياطين خلقن لنا … نعوذ بالله من شرِّ الشياطينِ وكلا النظرين سخيف قاصر؛ فليست المرأة ريحانة فحسب, ولا شيطانة فحسب؛ وإنما هي فوق ذلك مَرْبىً للرجال، ومحضنةٌ للقلوب، ومستودع للذخائر. بمثل هذه النظرات البلهاء فقدنا المرأة ففقدنا الرجل؛ فإن أردنا تنظيم حياتنا على أسس جديدة وجب أن يكون أولها وأولاها خلق قلب المرأة. الجمال المعنوي
ليس ما يمنع أن تحيا المرأة حياة الجمال, بل هو واجب أن يكون ولكن يجب أن يكون بجانب الجمال الحسي جمال معنوي؛ فيه جمال حديث المرأة , وجمال رقيها وخبرتها، وجمال شجاعتها، وجمال قلبها, فعند ذلك نجد المرأة فنجد الرجل. انظر الآن دور المرأة الغربية في الحرب, ولا أقص عليك إلا مثلاً واضحاً تلمسه في كثير مما يدور من قصص، وما يتلى من أخبار وهو أن الشبان والرجال يتعيرون كل العار أن يُروا في بلادهم أيام الحرب وهم لا يحملون السلاح, ولا يشتركون في القتال أو وسائل القتال , ويحز في نفوسهم أن قد أصيبوا بعاهة أو منعهم مانع جسمي عن أن يؤدوا لوطنهم خدمة ولأمتهم عملاً. ومن يقوم بهذا الدور الخطير من تأنيب وتعيير غير نساء الأمة؟ فتكفي نظرة من إحداهن ليفضل الرجل الموت على الحياة, وخطر الحرب على أمن السلم, وعيشة القتال على عيشة الدعة. كل هذا يلخص لنا الأمر في جملة: شَجُعَتْ المرأة فشجع الرجل, وماعت المرأة فماع الرجل. ليست تُعد الأمة راقية تستحق البقاء إلا إذا أرسلت الأمة أبناءها إلى ميادين القتال وهي تبتسم, وودعت الزوجة زوجها إلى الحرب وهي تملؤه أملاً بالعيشة السعيدة بعد النصر، وقالت الأمهات لأبنائهن ما قالت (أسماء): إن ضربة بسيف في عز خيرٌ من لطمة في ذل إن وراء كل جيش في الأمة جيشاً غير منظور من قلوب نسائه، ووراء كل جيش صاخب جيش المرأة الصامت، ووراء البنود والأعلام والجنود والذخائر ذخيرة أسمى وأرقى وأغلى، وهي (قلب المرأة). الهامش