| موضوع: أسس الحياة الطيبة للأستاذ أحمد أمين الإثنين يوليو 06, 2020 4:39 pm | |
| أسس الحياة الطيبة لـ الأستاذ أحمد أمين تناول فيه الكاتب أسباب القلق وأهمية العمل في تحقيق الحياة السعيدة ، الإنسان الذي يعمل هو الأقل قلقاً ، والعمل من أجل الغير هو الأساس من وسائل دفع الاكتئاب ، والقلق من الطبع الملازم للإنسان يمكنه دفعه بالتعود . هذه مختصر عناصر موضوع أسس الحياة الطيبة
كل الناس يطلب الحياة الطيبة السعيدة, ولكن أكثرهم لا يجدها؛ إما لأنه حرم وسائلها؛ وإما لأنه لم يعرف الطريق إليها. كتبت سيدة فاضلة تقول: إنها في رخاء في عيشها؛ فلديها المال الكافي للإنفاق في سخاء, وزوجها موظف كبير تُدِرُّ عليه وظيفتُه المالَ الكافي, وأولادها في صحة ناجحون في مدارسهم, ومع ذلك فليست سعيدة؛ لأنها تشعر بضيق لا تدري سبَبَهُ متوقعةً في كل لحظة الشر، وإن لم يكن؛ فابنها إذا غاب قليلاً أوجست خيفة من غيابه، وزوجها إذا سافر توقعت الشر في سفره، وابنها إذا دخل الامتحان اضطربت خوفاً من سقوطه, وهكذا لم ينفعها مالها، ولا غنى زوجها، ولا صحة أولادها, ولا وسائل الترف، والرفاهية من الشقاء الذي هي فيه, وتسأل بعد ذلك عن وسائل الحياة الطيبة السعيدة. الغنى ليس كل شيء
يا سيدتي ! أكثر الناس يخطئ؛ فيفهم أن الغنى هو سبب السعادة, نعم إن الفقر سبب من أسباب الشقاء؛ فمن لم يجد ما يعوله ويعول أولاده فهو في شقاء؛ فالقدر الكافي من المال لسد الحاجات الضرورية وسيلة من وسائل الحياة السعيدة, ولكن الغنى ليس كل شيء في الحياة السعيدة, بل كثيراً ما يكون عائقاً عن السعادة؛ لأسباب بسيطة واضحة كل الوضوح؛ فالمال لا نستطيع أن نشتري به الصحة، ولا الحب، ولا الطمأنينة. ومن ركز غرضه في جمع المال لم يجد فرصة للترفيه عن نفسه في النواحي الأخرى, واللذائذُ التي تنال بالغنى سريعة الزوال، والنفسُ أسرعُ إلى الملل منها, والغِنَى المُفْرِطُ مشغلةٌ تجعل الغني خادماً للمال وليس المالُ خادمَه, وأكثر الناس يخطئ في حقيقة بديهية، وهي أنْ ليست السعادة أن تكون عندك شيء، ولكن أن تعمل شيئاً؛ فالسعادة ليست في المِلْكية، ولكن في العمل. إن مَثَلَ مَنْ يجمع المال؛ قصداً للسعادة كمثل مَنْ يتسلح للعدو، فيلبس دروعاً ثقيلة، ويحمل أسلحة كثيرة؛ حتى يثقل ذلك عليه؛ فيمنعه من السير. فغناك وغنى أسرتك ـ يا سيدتي ـ لا يخلق السعادة، ولكن يصلح أن يكون وسيلة من وسائلها. أسس الحياة الطيبة
تَسْأَلينني في آخر خطابك عن وسائل الحياة الطيبة، فأرى أنها تقوم على أسس أربعة: الأساس الأول:
أولها: العمل ـ وهو قَدْرٌ لا بدَّ منه للغني والفقير, والرجل و المرأة, و بدونه تصبح الحياة عبئاً ثقيلاً لا يطاق. إن العمل واجب من ناحية الأخلاق؛ فمن أكل من مال الأُمة وجب أن يقدم لها أجر ما أكل، ومن سوء الحظ في المدنية الحاضرة والسابقة أن الجزاء فيها ليس متكافئاً مع العمل؛ فالأمم كلها ـ مع الأسف ـ مملوءة بالأمثلة العديدة لأناس يعملون كثيراً, ويعملون عملاً نافعاً عظيماً, ثم لا يكافئون على عملهم إلا بالقليل الذي يسد رمقهم, وبجانبهم من يعمل قليلاً، أو لا يعمل أصلاً، أو يعمل شراً، ثمَّ هو يكافأ على ذلك من غير حساب. وهذا عيب في المدنية يجب أن يعالج, ثم العمل واجب من الناحية النفسية؛ فمن لم يعمل عوقب بالسآمة، والملل، والضجر، وكلما كان العمل لنفع الناس كان الجزاءُ عليه أوفى. وعبرة ذلك في التاريخ نفسه, فهو لم يحفظ لنا أسماء الأغنياء، والوزراء، والمترفين بقدر ما حفظ لنا أسماء كبار العاملين الخيِّرين. عبرة
بالأمس كنت أتحدث إلى صديق لي عن العالِمْ الشهير (ابن حزم الأندلسي) فكان مما قلته إنه كان عالماً كبيراً، وأخلاقياً عظيماً، وكان من بيت كبير فقد كان أبوه وزيراً . فقال: ما اسم أبيه؟ قلت نسيت ذلك، قال: إن في ذلك لعبرة لقد حفظت وحفظ أمثالك اسم العالم ونسيت ونسي أمثالك اسم الوزير الذي كان ذا جاه عريض؛ فالحياة بلا عمل حياة ميتة، و لست مخيراً أن تعمل؛ وكل اختيارك إنما هو في نوع العمل الذي يصلح لك، ويصلح له، وإني لا أشك في أن الأغنياء الذين لا عمل لهم من أشقى الناس, ولذلك يبحثون عن اللذائذ الرخيصة يضعون بها سأمهم ولكن سرعان ما تنقضي لذائذهم فخير أكلة ما أكلها الإنسان على جوع, وخير نوم ما نامه الإنسان بعد تعب، والراحة الدائمة في حاجة إلى إجازة أكثر من حاجة العمل إلى إجازة، ولعل سأم السيدات وخصوصاً المترفات اللائي اعتمدن في عمل البيت، وتربية الطفل على الخدم، والحشم سببه هذا, وهو الحياة بلا عمل، وتَلَمُّس السعادة من طريق اللذائذ التافهة. الأساس الثاني للحياة الطبيعية:
الأساس الثاني للحياة الطبيعية: الطبع الراضي, أو المزاج الفرح, أو الطبيعة المتفائلة؛ فنرى في الحياة وجوهها الباسمة، وخيراتها الكثيرة؛ فكثير من أسباب الشقاء يرجع إلى الطبع الساخط, الطبع الذي لا يرى في الحياة إلاَّ مصائبها، وشرورها، وأحزانها, الطبع الذي يخلق من كل سرور بكاءاً، ومن كل لذة ألماً، ومن كل مسرة محزنة, الطبع الذي إذا أتيت له بعشرين تفاحة كلها جيدة ما عدا واحدة لا تقع عينه إلا على الفاسدة, وإذا كان في بيته كل ما يسر لم يلتفت إليه، وخَلَقَ الغضبَ من طبق كسر، أو كرسي في غير موضعه. الطبع الراضي متسامح في الصغائر, خالق للسعادة، باشٌّ مستبشر, يتوقع الخير أكثر مما يتوقع الشر, يضحك حتى في الهزيمة، وحتى عند الخسارة المادية, يرى أن مسرح الحياة كميدان لعب الكرة, يكسب اللاعب فيضحك، ويخسر فينتظر الغلبة. الأساس الثالث:
الأساس الثالث: أن يكون للإنسان غرض نبيل في حياته الاجتماعية, يشعر بأن هناك بائسين من نواحيهم؛ فالدنيا مملوءة بآلام الناس من مرض، وفقر؛ فإذا استطاع أن يُشْعَر قَلْبَهَ الرحمة؛ فيعمل في جمعية تخفيف الفقر، أو تواسي المرضى، أو تسعف المنكوبين، أو نحو ذلك شعر بأنَّ حياته غنية بعمل الخير؛ فاغتبط وسعد؛ يَسْعدُ لمشاركة الخيرين في عملهم, ويسعد في شعوره بمحاولته إنقاذ البائسين من بؤسهم. وهذا عمل في متناول الرجال، والنساء على السواء؛ فكلٌّ يستطيع أن يشترك في خدمة اجتماعية يقدمها؛ فيشعر بالغبطة والسرور، ولا شيء يبعث الضجر والسأم كمعيشة الإنسان لنفسه فقط. إن الأنانية وحب الذات (٣) خُلُقٌ طفليٌّ يصحب النفس الضيِّقة في دور الطفولة؛ فمن كبر ولا زال لا يحب إلا نفسه كان ذلك علامة طفولته، وصغر نفسه؛ الأناني كثير السأم لأنه لا يشعر إلا بنفسِه ونَفْسُهُ تدور حول نفسها، أما الذين يشعرون بغيرهم فيضيفون نفوساً إلى نفوسهم، وآفاقاً إلى آفاقهم، ويجدون لأنفسهم أغذية مختلفة من شعور الآخرين وآرائهم. الأساس الرابع
الأساس الرابع للحياة الطيبة: أن يكون لك غرض في الحياة محدود، ثم يكون لك اهتمامٌ في تحقيقه، وتعاون مع من يشاركك في برنامجه، توسع ثقافتك فيما حدَّدت من غرض وتتعشقه؛ حتى تتلذذ من العمل الذي يقرب من النجاح فيه؛ فحدد الغرض، وارسم برنامجه، ورتب خطواته، وأحبه، وأحب العمل للوصول إليه تشعر بسعادة لا تُقَدَّر. إن كثيراً من البؤساء في الحياة سبب بؤسهم أنهم يعيشون ولا يدركون لِمَ يعيشون، وما وظيفتهم في الحياة وما غرضهم منها؛ فيكون كالسائر في الشارع بلا غرض, يتسكع هنا آناً وهنا آناً؛ فإذا رأيت رجلاً متبرماً من الحياة, ضَيِّقَ الصدر, ملولاً ضجراً يغلب عليه الحزن والكدر_ فاعلم أنه فقد عنصراً أو أساساً من عناصر الحياة الطيبة؛ فهو إما فارغ لا عمل له يعتمد على مال موروث، أو مال يأتي من عمل غيره، ويكتفي بهذا، ويركن إلى البطالة، أو هو إنسان تعوَّد أن يرى الحياة بمنظارٍ أسودَ دائماً ولم يقاومه, أو هو عاش لنفسه فقط؛ فلم يشترك في عمل اجتماعي يشعره بالرحمة، والشفقة، وهي من النعم الكبرى على الإنسان, أو عاش بلا غرض كالريشة في الهواء لا يتحمس لعمل، ولا ينظر غاية. هذه ـ يا سيدتي ـ هي أسباب الحياة الطيبة, وفقدانها أو فقدان واحدة منْها يجعلها حياة تعسة بغيضة. فليختبر كل نفسه؛ ليعرف موضع مرضه. الهامش
(١) فيض الخاطر 6/275 _ 278. (٢) سبقت في المجموعة الأولى ترجمة له. (٣) لو قال: الغلو في حب الذات(م).
| |
|