| موضوع: أوراق ذابلة من حضارتنا .. قصة وعبرة من سقوط الأندلس الثلاثاء يونيو 16, 2020 1:49 pm | |
| إن قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا.. قصة ضياعنًا وأكلنا بعضنا بعضًا كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضًا.
حين تذهب إلى التاريخ تتلقى منه تلقي التلميذ المتعلم، وليس تلقي التلميذ المتحجر المكابر، يروعك أنك تقرأ نفسك ومجتمعك وأحداث عصرك في بعض صفحاته، وتكاد تحس بأن ما يدور حولك ليس إلا آخر طبعة من كتاب التاريخ، وأن الذين يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ - أي أفضلها – أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ.. هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون، يمتازون بالغباء الشديد والسذاجة المفرطة.
كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري " الحادي عشر الميلادي " تحمل في أحشائها وباء خطيرًا على الأندلس الإسلامية، لقد سقطت الدولة العامرية، آخر حامية للدولة الأموية في الأندلس، ولقد ظهر أن أحفاد عبد الرحمن الناصر الأمويين أقل من أن يقوموا بعبء حماية الإسلام الأندلسي.
وكان البربر قد هاجر كثير منهم إلى الأندلس بحثًا عن سلطة أو زعامة، وكان الصقالبة وهم مجموعة من النازحين إلى الأندلس، يشكلون بدورهم عنصرًا من عناصر الوجود في الحياة الإسبانية الإسلامية.
ومن هذه القوميات المتناطحة تشكل الوجود الأندلسي غرة القرن الخامس الهجري.. فلمَّا سقطتْ خلافة الأمويين الإسلامية في الأندلس، نتيجة امتصاص طاقتها في مشاحنات داخلية.. تحركت كل هذه الطوائف المقيمة فوق أرض الأندلس الإسلامية تبحث عن السلطة والامتلاك.
وبدلًا من أنْ تتحد قواهم في وجه المسيحيين المجاورين لهم، وبدلًا من أن يرفعوا راية الإسلام والجهاد كأمل ينقذ أندلسهم من التحدي الصليبي المتربص لهم.. بدلًا من هذا.. أعلنوا أحقاد القومية الطائفية والنعرات الجنسية!!، وظهر في الأندلس أكثر من عشرين دولة يتقاسمها الأندلسيون والبربر والعرب والصقالبة.. ففي كل مدينة دولة، بل ربما اقتسم المدينة أكثر من طامع ومنافس.
استمر أمر هذه الدول أو هذه المدن المتنافسة التي عرف حكامها بملوك الطوائف.. استمر أمرها أكثر من خمسين سنة.. امتهن فيها الإسلام والمسلمون، وتوسل كل ملك منهم بالنصارى ضد إخوانه المسلمين.
لقد فشل ملوك الطوائف في أن يلموا شعثهم، وأن يتكتلوا ضد النصارى.. ومن عجيب المقادير أن " ألفونسو السادس" ملك قشتالة وليون واستوريا، كان يتظاهر بحماية هؤلاء الملوك المسلمين، ويأخذ منهم الجزية والإتاوات التي يرفع من قيمتها سنة بعد أخرى، واستطاع أن يعد عدته من الإتاوات التي يفرضها عليهم ليلتهمهم بها كلهم.. وكان آخر ما التهمه ألفونسو من أرض المسلمين تحت سمع وبصر هؤلاء الإسلاميين بل وبمساعدة بعضهم.. مدينة طليطلة سنة 478هـ= 1085م.
وعند هذه الموقعة تأكد لدى المعتمد بن عباد أكبر ملك من ملوك الطوائف أن ألفونسو يريد الالتهام.. ولا أقل من الالتهام الكامل.. وفكر المعتمد في وسيلة الإنقاذ.. وضعته الأقدار أمام حل واحد لم يكن له خيار فيه.. لقد قرر أن يستنجد بالمرابطين المسلمين الموجودين في المغرب الأقصى كقوة إسلامية ناشئة.. وقد نجح المرابطون في إيقاف الزحف النصراني، وأذلوا كبرياء ألفونسو، واستردوا كثيرا من مدن الإسلام، ولم يحاول الأندلسيون بناء أنفسهم.. لم يحاولوا صنع التقدم من خلال الذات.. لقد اعتادوا تسول النصر واستيراد البقاء من إخوانهم المغاربة المسلمين.
وحقيقة.. نعم حقيقة.. بقيت الأندلس إسلامية باستيرادها النصر أيام المرابطين ثم أيام الموحدين ثم أيام بني مرين.. وبقيت مملكة غرناطة الإسلامية وحدها أكثر من مائتي سنة تصارع الموت كوهجة الشمس قبل الغروب.
لكن للأسف في كل هذه الحقب التاريخية إلا القليل جدًا منها، كان كل شيء ممكنًا إلا العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا... والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة.. كان كل شيء ممكنًا إلا هذا.. كان الترامي في أحضان العدو ممكنًا.. وكان التنازل له عن الأرض ممكنًا.. وكان الانقسام العائلي والخلاف الداخلي لدرجة الاستنجاد بالعدو ممكنًا.. أجل.. لولا هذا لأصبح المكان خاليًا وملائمًا لبروز الحل الوحيد الصحيح.. الحل الإسلامي.
ولكن قانون الحضارة كان قد قال كلمته.. فإن الذين فشلوا في أن يخلقوا من أنفسهم قوة قادرة على الحياة ما كان ينفعهم حتى أنْ يشتروا النصر أو يستوردوه، ففي سنة 897هـ= 1492م سقطت غرناطة آخر ممالك الإسلام في الأندلس، وطرد المسلمون شر طردة، وكانت هذه هي النهاية التي تنبأ بها الذين أدركوا قانون البقاء الذي هو من سنة الله.
نعم: أدركوا أنَّ التاريخ لا يقوم بالاستيراد، ولا تنتصر حركة تقدمه بالمتسولين! لكنها سنة الله في حركة التاريخ.. فعندما يتم الخروج على قوانين الله تتجمع عوامل الفناء فيغلق باب العودة. وتسألني لماذا طردنا من الأندلس؟ فأقول لك: لأن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.. ثم أقول لك عبرة التاريخ.. قانون سقوطنا: " حين يبحث كل عضو منا عن نفسه تسقط سائر الأعضاء".
فعندما تصل حركة التاريخ إلى طريق مسدود بعد أن يفسق أهل القرى ويخلعوا طاعة الله.. في هذه الحال يكون لا أمل إلا في شيء واحد.. هو الزوال.. وهذه هي المعادلة الوحيدة الصحيحة في تفسير التاريخ: خروج على قوانين الله.. إمهال نسبي من الله قد يغري الخارجين على القانون بالتمادي.. تجمع لعوامل الفناء. إغلاق لباب العودة... حصاد تاريخ طويل من الضياع والقومية الجاهلية والصراع بعيدًا عن الإسلام.. كل هذه العوامل قد عملت على إطفاء آخر شمعة إسلامية في الأندلس بعد ثمانية قرون عاشتها في ظلال الإسلام[1].
[1] دكتور عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، ص13- 21.
| |
|